ما الذي ينبغي أن تقوم به الفيدراليّة الروسية لتصبح فيدراليّة؟


الكاتب: بافل لوزين 

ترجمة: عادل بشقوي

قد لا يكاد أي شخص يجادل بأنه في الوقت الحاضر، يضيق الخناق على تلك المناطق الروسية القوية في ظل سياسة الكرملين، في حين أن المناطق الأضعف تبقى مكبوحة الجماح، نظرا للصدقات التي تعطى لها من الموازنة الفيدراليّة. ببساطة، الفيدراليّة الرّوسيّة ليست بقيدراليّة. ومع ذلك، فإن الهدف وطبيعة الطابع متعدد الأوجه للتنمية الاجتماعية — الاقتصادية أدت إلى حقيقة أن أي محاولات للإتّحاد الإداري تحيي الممارسات الاستعمارية القديمة، وهي غير ملائمة للمجتمع الروسي المعقد وللعالم المعاصر على وجه العموم.

في المقابل، ينبغي لنا أن نفهم الطريقة التي تعمل وفقها الآلية السياسية لأعمال المركزية السياسية والاقتصادية المفرطة في الوقت الحاضر وكيف (وعلى أيدي من) يمكن الوصول إلى هيكل فيدرالي مرغوب في مرحلة ما بعد رحيل فلاديمير بوتين من منصبه.

القطيعة مع النموذج السوفياتي

إن أساس النظام الإداري – و – الإقليمي الحالي في روسيا هو المعاهدة الفيدراليّة التي أبرمت في 31 مارس/آذار 1992، بين سلطات الدولة في المناطق والفيدراليّة الروسية والتي شكلت عمليا أساساً للفصل المطابق لدستور عام 1993. في واقع الأمر، نحن نتحدث عن ثلاث اتفاقيات — وقعت الحكومة المركزية اتفاقا مع الجمهوريات ذات السيادة في الفيدراليّة الروسية (فقط تتارستان والشيشان رفضتا التوقيع عليه)؛ واتفاقا مع أقاليم ومناطق ومدن موسكو وسان بطرسبرغ. واتفاقا مع مناطق الحكم الذاتي ومنطقة الحكم الذاتي اليهودية. التحليل القانوني لأحكامها ليست مهمتنا — نحن بحاجة إلى التركيز على الجانب السياسي للمسألة.

وكخطوة أولى، دعونا نلقي نظرة على الذين قاموا بالتوقيع على المعاهدة — هؤلاء الممثلين المفوضين للسلطات العامة، هم فقط. هذه هي، معاهدة عام 1992، التي هي في الواقع، نوع من الإتفاق بين السلطات المركزية والإقليمية للبلاد والتي ولغاية تلك النقطة، كانت قد دعيت جمهورية روسيا السوفيتية الاتحادية الاشتراكية (RSFSR).

السلطات الإقليميّة (إنّها السلطات — لا المواطنين) احتفظت بالحد الأدنى من السلطة فقط ضمن نطاق مسؤوليتها المنفردة وفي المقابل، حصلت على التمثيل في مجلس الشيوخ في البرلمان الروسي وحصة من السيطرة على الأصول المملوكة للدولة. السلطات الإقليمية. ونتيجة لذلك، اتخذت الوضع الراهن السوفياتي في السلطة، وإن يكن قد ساد عدم وجود الحزب الشيوعي للاتحاد السوفياتي (CPSU) وبعض العناصر من اقتصاد السوق. هذا هو بالضبط طبيعة هذه المعاهدة؛ كصفقة بين السلطات المركزية والإقليمية، التي قامت بالتحديد المسبق لكل من الشروط الخاصة للنخب في تتارستان، الذين تمكنوا من التفاوض على شروط أكثر مواتاة مع الكرملين، والكارثة التي حلّت نتيجة حربين في الشيشان في الوقت الذي كان فيه الكرملين يحاول المساومة مع دوداييف من موقع القوّة.

لقد أصبح عدم وجود مبدأ انتخابي راسخ بشأن السلطات الإقليمية جانبا هاما آخر من الاستمرارية مع النظام البلشفي (Bolshevik system). وهذا هو بالضبط ما يفسر ظاهرة أن منذ عام 1992، لاحظنا بالفعل أربعة أساليب منفصلة لتشكيل السلطات الإقليمية للسلطة التنفيذية (جرت الانتخابات بالاقتراع المباشر فقط في الأعوام 1995 – 2004) والتعديلات المستمرة للعملية الانتخابية للمجالس التشريعية الإقليمية. وعلاوة على ذلك، تم إدخال كل التغييرات الرئيسية بمبادرة الكرملين.

الأطروحة الأولى: نيابة عن المواطنين المقيمين في كل من المناطق، وعبر ممثلين منتخبين بشكل مباشر من قبلهم، فإنه أمر لا غنى عنه من إبرام معاهدة الفيدراليّة الجديدة، وبالتالي تعديل الفصل الثالث من دستور الفيدراليّة الرّوسيّة بشأن الهيكل الفيدرالي، ولتمهيد الطريق لإنشاء السلطات الإقليمية وتنفيذ المبادئ الأساسية للحكومة المحلية. في الوقت نفسه، يتعين على الإدارة المركزية تفويض الصلاحيات القصوى إلى المناطق، باستثناء الإستغناء عن الروبل، والسياسة الخارجية والدفاع والسلطات في المناطق التي يكون فيها توحيد الموارد ضرورياً.

تعليق هامشي: إلى أن يحين الوقت الذي يتم فيه فرض حل دولي لمشكلة الضم الروسي لشبه جزيرة القرم، فإن سكان شبه الجزيرة يجب عليهم، وتحت أي ظرف من الظروف، أن ألا يشاركوا في هذه العملية. وعليه ستفقد الفيدراليّة الروسية هناك التي أنشئت حديثا مصداقيّتها.

إيجاد مساواة سياسية بين المناطق

وبعد آخر هام من معاهدة الاتحاد لعام 1992(1992 Federation Treaty) كان عدم المساواة السياسية للمناطق التي تتعلق بها. فقد تغير الوضع السيادي للجمهوريات ضمن هيكل الفيدراليّة الروسية من خلال صعود بوتين في هرم السلطة. ومع ذلك، فقد احتفظت بوضعها المتميز في البلاد. غالبية المناطق — المحافظات والمقاطعات — تشكل “الطبقة الوسطى” ضمن هذا التسلسل الهرمي. هنا، يتم تحديد وضع النخب المحلية فقط عن طريق الثقل الاقتصادي لكل منطقة على حدة، فضلا عن قدرات الضغط التي يمارسها المحافظون كل على حدة.

مناطق الحكم الذاتي التي حددت على أسس عرقية سابقا في عهد الاتحاد السوفيتي كانت في أسفل سلم التسلسل الهرمي. باستثناء أوكروغ يامالو-نينيتس ذات الحكم الذاتي (Yamalo-Nenets Autonomous Okrug) وأوكروغ خانتي-مانسي ذات الحكم الذاتي (Khanty-Mansi Autonomous Okrug)، التان هما مراكز لاستخراج النفط والغاز، ويمكن أن توصف المقاطعات الأخرى مناطق منكوبة اقتصادياً. ومع ذلك، بدلا من تهيئة الظروف المؤسسية لتنميتها، اختارت الحكومة المركزية لتطوير عملية استيعابهم من قبل المناطق والأقاليم المجاورة الأقوى. ونتيجة لذلك، لم تعد 6 من أصل 11 منطقة حكم ذاتي من الأعضاء الذين كانوا قد وقّعوا على المعاهدة موجودين كتابعين للاتّحاد.

وهكذا، تم في البداية تزييف آليّة سياسية لإخضاع المناطق غير المتكافئة إلى الكرملين، حيث قامت النخب المحلية بالتفاوض على جميع المسائل الهامة معها بشكل منفصل؛ بمعزل عن بعضها البعض وعن المواطنين.

الأطروحة الثانية: يجب أن يتوقف إعادة توزيع الدخل من المناطق القوية لصالح المناطق الضعيفة من خلال الموازنة الفيدرالية. يجب على الحكومة المركزية أن تركز على إيجاد والحفاظ على مؤسسات السوق الحرة العالمية في جميع أنحاء البلاد. يتم تحفيز المناطق الضعيفة عندما يتعلق الأمر بتطوير نظام السوق الحقيقي. وعلاوة على ذلك، وفيما يتعلق بالاندماجات، وتقسيم المناطق، أو تشكيل التكتلات السياسية – و – الاقتصادية المستدامة في إطار الفيدراليّة، يجب ان تحل بشكل خاص من قبل المناطق نفسها. وبالتالي حتى التشكيل المؤقت للشرق الأقصى، أو سيبيريا أو جمهوريات الأورال سوف لن يشكل حدثاً مأساوياً.

تعليق هامشي: إذا نظرنا اليوم إلى الجزء المتطوّر اقتصاديا من روسيا باعتباره أرخبيلاً يتألف من أكثر من عشرين تجمعا يبلغ عدد سكانهم أكثر من مليون نسمة لكل واحدٍ منهم — يصبح  واضحاً أن أي مقاومة محتملة من قبل المناطق الضعيفة يمكن تجاهلها، عند تطبيق مثل هذا النهج.

المجلس الفيدرالي بوصفه مؤسسة وحدة حقيقية

لقد طوّر النظام السياسي الروسي عددا من الآليات الإضافية للحفاظ على سلطتها على كافّة المناطق. ولممارسة السيطرة على المناطق وإضعاف علاقات الاتصالات الأفقية بين نخبها، وتم في العام 2000 تشكيل مناطق فيدرالية برئاسة الممثلين المفوضين للرئيس الذين يُشبّهون بالحكّام العامّين في عهد النظام الملكي. وهذا النظام هو أحد وسائل الاتصال لحكام الأقاليم والمناطق مع إدارة الرئيس — هو أيضاً منبر آخر للمساومة.

يمارس الكرملين أيضاً السيطرة على مجلس الشيوخ في البرلمان الروسي — المجلس الفيدرالي (FC) — الذي يمثل المناطق. لا المعاهدة الفيدرالية ولا الدستور ينصان على الإجراء لانتخاب أعضاء لهذا المجلس. مرة واحدة فقط في الفترة بين 1994 – 1995، تم مشاركة اثنين من الممثلين المنتخبين بشكل مباشر من كل منطقة في الجلسات. وتحول هذا الوضع لأن يكون غير مريح للغاية بالنسبة للكرملين: يمكن للمناطق بناء علاقات اتصال سياسية أفقية عبر المجلس الفيدرالي؛ مع مثل هذا التكوين، تبين للمجلس نفسه أنه قادر على التأثير على قرارات المركز. وفي وقت لاحق، تغيرت إجراءات تشكيل المجلس مرتين؛ ولم تذكر الإنتخابات المباشرة مرّةً أخرى، في حين أن المقاعد فيه أصبحت موضوع آخر للمساومة بين المركز والنخب الإقليمية. وعلاوة على ذلك، في عام 2014، حصل الرئيس على كوتا لتعيين 10 ٪ من أعضاء هذا المجلس.

الأطروحة الثالثة: يجب أن يتم تشكيل مجلس الاتحاد من قبل المواطنين في الانتخابات بالاقتراع المباشر. وينبغي تكريس هذا النظام الانتخابي في الدستور. ينبغي القضاء على جميع المؤسسات التي تعطي السيطرة البيروقراطية للكرملين على المناطق. هذه هي الطريقة الوحيدة للتغلب على القصور التاريخي للشمولية وإنشاء نظام من الضوابط والتوازنات.

عدم التدخل، جواز المرور

بشكل عام، فإن الحكومة المركزية في روسيا ما بعد مرحلة الاتحاد السوفياتي تخشى من أي اتصال مستقل بين المناطق؛ ووضع الحواجز أمام هذه الاتصالات التي هي واحدة من توجهات سياساتها. وبالتالي، يتم حل جميع القضايا الهامة، وخاصة في مجالات التعاون الاقتصادي الإقليمي بعيد المدى عن طريق الكرملين والمقربين منه.

في ظل هذه الظروف، فإن الشركات المملوكة للدولة — ‘غازبروم’، و’روسنفت و’ترانسنفت’، و’السكك الحديدية الروسية’، و’روستيك’ “وغيرها — تلعب دورا أكثر أهمية بكثير في الحفاظ على العلاقات الاقتصادية والسياسية بين المناطق وحتى البلديات المتجاورة في مناطق مختلفة. ومع ذلك، فإن الأولوية السياسية لهيمنة الدولة تعزز عدم المساواة الإقليمية، وتضعف المناطق وتزيد من ارتفاع تكاليف الاحتكار. ومن الناحية النظرية، فإن تفتيت هذه الشركات سوف لن يغير أي شيء بشكل جذري.

يوفر الهيكل الحالي لمصادر قليلة جدا من النمو الاقتصادي في المناطق، حيث يتم سحق الأعمال إلى حد كبير بواسطة الضرائب التي تعود بالنفع على المركز والتنظيم من قبل جهات حكومية متعددة. ونتيجة لذلك، بدلا من إنشاء فيدرالية، اعادت روسيا ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي نموذجاً إستعمارياً. كما هو الحال دائما، المصلحة الاقتصادية للطبقة الحاكمة هي جوهر القضيّة.

الأطروحة الرابعة: من أجل التغلب حقا على هذه الظواهر، سيتم استبدال أي قيود على المبادرات الخاصة والإقليمية من خلال بروز مبادرات حقيقية، وهذا فقط، مقترن بتطوير مؤسسات حكومة تمثيلية على المستوى المحلي والإقليمي والفيدرالي، وسوف تسمح للخلاص من ممارسات الإدارة الاستبدادية والاستعمارية التي تعرقل التنمية في البلاد.

هل هناك خارطة طريق؟

اليوم، نلاحظ نقصاً أساسياً في خطّة بناء عامّة في روسيا. والسلطات الحاليّة ليست قادرة على تقديم خطّة بأي شكل من الأشكال. بدلا من ذلك، الأجندات الإقليمية والمحلية آخذة في الظهور بشكل خفي. حتى الآن، إنها تختزل في سؤال واحد: “كيف يمكن البقاء على قيد الحياة في ظل ظروف تزايد عدم اليقين”؟ ويتم تناول هذه المسألة بشكل منفصل من قبل كل منطقة على حِدة، وفي كل مدينة، مع عدم وجود آليات يمكن من خلالها إجراء بحث مشترك عن إجابة. وتتفاقم المشكلة بالنسبة لعدم وجود فيدرالية بواسطة إثنتين من المظاهر السلبية التي تدل على تفاقم وشيك للدّاء السّياسي — ركود النخب الإقليمية، والتعفن الخطير لجثث حكام الولايات ورؤساء البلديات.

1. ومن الواضح أن النظام الروسي الحالي يحاول إنقاذ نفسه بضراوة، بحيث أن الجمود التاريخي للشمولية هو السائد. ومع ذلك، بغض النظر عن الطريقة التي يترك بوتين منصبه الرئاسي فيها، فإن الحكومة الجديدة عليها التعامل مع مهمتين. في الأولى، سيكون عليها إضفاء الشرعية على نفسها داخل البلاد وخارجها، والثانية، فإن عليها أن تدخل في حوار صعب مع المناطق. هذه المهام سوف يتعين معالجتها بغض النظر عما إذا كانت الحكومة الجديدة ديمقراطية حقيقية أم لا، وما إذا وجب أن تحاول تقليد الديمقراطية من أجل الحفاظ على الذات.

2. أعضاء المجلس الفيدرالي، إلى جانب غالبية الحكام الحاليين ليسوا على استعداد لمثل هذا الحوار. في ظل الظروف، فإن الحل الأبسط والأكثر فعالية هو العودة الى الانتخابات لمنصب الحاكم مباشرة، وتفويض المسؤولية، وبالتالي تسليم المخاطر مباشرة لمجلس الشيوخ في البرلمان المنتخب بالاقتراع المباشر. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الحكومة المركزية ليس لديها ما تقدمه للمناطق باستثناء توسيع دورهم وسلطتهم، وزيادة الحصص من عائدات الضرائب. والمؤسسات السياسية التي لم يعد لها وجود اليوم سوف تطلب إعادة الفصل بين السلطات حسب الدستور.

3. إن إلغاء إعادة توزيع الدخل أمر صعب، أولا وقبل كل شيء، من الناحية النفسية. طبيعة تعدد الأوجه للبلد يعني أنه من المستحيل بناء نظام عادل ورشيد أو إعادة التوزيع: سيكون هناك دائما عدد قليل جدا من المانحين والكثير من المستفيدين. وبالتالي، فإن نموذجا أمريكياً بدلا من النموذج الألماني يناسب روسيا على شكلٍ أفضل من حيث الميزانية الفيدرالية. والسبيل الوحيد للمضي قدما هو أن تترك الضرائب التي لا يمكن إلغاؤها في إطارها المحلي، وإعطاء المناطق القوية فرصة للحصول على حصة من، وعلى التكيف مع، السوق العالميّة. بهذه الطريقة فقط يمكنهم أن يعملوا محفزاً للنمو الإقتصادي العام.

4. هذا التأسيس المؤلم للغاية لمؤسسات السوق الحرة هو أمر لا غنى عنه لهيكل فيدرالي قابل للحياة في روسيا. وتجدر الإشارة إلى أن 20 مليون مواطن على الأقل، في الواقع، يعملون في ظل هذه الظروف (وتدعو الحكومة ذلك “عمالة الظل”). وهذا هو، أطروحة عدم التدخل، وقد جرى بالفعل تنفيذ جواز مرور من قبل جزء كبير من الروس.

الخطر الرئيسي. هو أن الوضع السياسي يمكن أن يتغير في الطرق التي لا يمكن التنبؤ بها، والرغبة في تنفيذ التغيير السريع وكذلك اعتبارات تكتيكية عندما يتعلق الأمر بمعالجة المشكلة المذكورة سوف يثبت أنه أكثر إغراء من تقاسم المسؤولية مع المواطنين واتخاذ قرارات صعبة لأي حكومة تأتي بعد بوتين. في هذا الصدد، من المحتمل جداً أننا محكومون بعودة ظهور آخر للنموذج السلطوي إن لم يكن تدهوراً وتفككاً لفسيفساء الفضاء السياسي في البلاد.