هل تُؤدي الأزمة السورية إلى اندلاع حرب باردة جديدة؟


خالد التاج

دخلت الثورة السورية التي اندلعت سنة 2011 إبان ما عرف بالربيع العربي للمطالبة بمزيد من الحرية و الإصلاحات الديمقراطية و التي سرعان ما تم تحوير مسارها إلى حرب أهلية حقيقية أخذت بعدا طائفيا بين نظام أمني ينحدر من طائفة علوية شيعية وباعتباره حامي للأقليات و الإثنيات التي يتكون منها النسيج المجتمعي السوري كالأكراد و الشركس و الأرمن و الإيزيديين و التركمان وغيرهم وأغلبية سنية، وهو ما أدى إلى أزمة إنسانية حقيقية أدت إلى أكثر من مائتي ألف قتيل علاوة على الجرحى و ملايين المهجرين عامها الرابع، دون أن تلوح في الأفق بوادر حل أو انفراج ينهي الصراع بين مختلف الفرقاء وينهي معه هذه المأساة الإنسانية، بل ما حدث هو العكس تماما حيث فتحت جميع أبواب جهنم لتعمق من جراحات الشعب السوري و دخلت معه سوريا و منطقة الشرق الأوسط ككل مرحلة جديدة حبلى بالتطورات الدراماتيكية والتعقيد بسبب كثرة الفاعلين و اللاعبين على الأرض السورية وهو ما جعلها ساحة مفتوحة لصراع نفوذ القوى الكبرى أو الحرب بالوكالة أو لتمرير مشاريع الموت و الدمار.

وتتشكل هذه الأطراف المتدخلة في الصراع السوري من محاور دولية مشكلة أساسا من:

- 1 المحور الروسي الإيراني وتحالف القوى الشيعية كحزب الله اللبناني وعصائب أهل الحق وجيش المهدي العراقيين، وهي قوى تدافع باستماتة عن بشار الأسد ونظامه الأمني، فروسيا التي أحست بما أسمته الخديعة التي تعرضت لها في ليبيا، اعتبرت مسألة الدفاع عن حليفها الإستراتيجي في سوريا مسألة حيوية وغير قابلة للنقاش كما أنها غير مستعدة لخسارة آخر موطأ قدم لها في منطقة الشرق الأوسط، و هو ما حدا بها إلى التدخل بقوة وتعزيز وجودها عبر مستشارين عسكريين ودعم فني و لوجستيكي فعال على غرار ما حدث الأسبوع الماضي في منطقة اللاذقية و ميناء طرطوس على الساحل السوري حيث بدت روسيا غير عابئة بتحذيرات الدول الغربية خصوصا وأنها تبدو أكثر قوة وحزما في الدفاع عن مصالحها الحيوية وحلفاءها في ظل حكم الرئيس فلاديمير بوتين، وتجلى ذلك بوضوح أيضا في ضم شبه جزيرة القرم إلى سيادتها بالقوة، بالإضافة إلى دورها في الأزمة الأوكرانية ومساندتها للانفصاليين من أصول روسية في المناطق الحدودية مع أوكرانيا ك "دونيتسك" و"خاركوف"، ومناداة الرئيس الروسي غير ما مرة إلى "عالم متعدد الأقطاب" بدل نظام الأحادي القطبية السائد حاليا وتوجسه من تمدد حلف الشمال الأطلسي شرقا، وعلى المستوى الاقتصادي نذكر رعايته لمجموعة دول "البريكس" BRICS باعتبارها كتكتل اقتصادي واعد يضم كل من روسيا،الصين،الهند، البرازيل وجنوب إفريقيا، كما أن إيران المزهوة بما اعتبرته نصرا بَيِّنًا أمام دول الخمسة + 1 والذي تٌوج بتوقيع اتفاق نووي عقب مفاوضات دامت لأكثر من ثمان سنوات ضمنت بموجبه حقوقها في تخصيب اليورانيوم وحظيت باعتراف دولي كقوة إقليمية في منطقة الشرق الأوسط و الخليج ،وهو ما شجعها على تعزيز وجودها في الأراضي السورية بواسطة الحرس الثوري وتقديم المزيد من الدعم المادي و اللوجستيكي للنظام السوري مطالبة بإشراكها في أي تسوية مستقبلية تنهي الأزمة.

- 2 المحور السعودي القطري التركي و الذي يرى في نظام الأسد فاقدا للشرعية وجزء من المشكلة بسبب ارتكابه للعديد من المجازر في حق الشعب السوري وبالتالي عليه أن يتنحى ولا يرى أي تصور لحل الصراع في ظل استمرار نظام الأسد، غير أن هذا المحور قد بدأ في الآونة الأخيرة يلين شيئا فشيئا من مواقفه تناغما مع الموقف الأمريكي وكان آخرها موقف الرئيس التركي الذي اعتبر أن التسوية في ظل نظام الأسد مسألة ممكنة لضمان انتقال ديمقراطي وأن الأولوية الآن هي قتال داعش وإرهاب حزب العمال الكردستاني متأثرا على ما يبدو بالأوضاع الداخلية والتطورات التي تشهدها بلاده وصلابة الموقف الروسي.

- 3 أما باقي الأطراف الأخرى الدولية فهي عديدة و متنوعة كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا و فرنسا و إسرائيل، لكن اللافت هو الموقف الضبابي للولايات المتحدة التي بدأت هي الأخرى في تغيير موقفها من نظام الأسد معتبرة أن الأولوية الآن هي لقتال تنظيم داعش والجماعات التي تعتبر إرهابية واللافت أيضا أن الولايات المتحدة بدأت في تقزيم نفوذها في منطقة الشرق الأوسط ككل بسبب الذكريات السيئة التي ترتبت عن غزو العراق وأفغانستان والتي كلفت الولايات المتحدة أكثر من ترليون دولار ناهيك عن الكلفة الأخلاقية والبشرية، والتقليل من اعتمادها على نفط المنطقة لصالح تعزيز وجودها في المحيط الهادي وبحر الصين ، وهو ما اعتُبر كنوع من التخلي عن حلفاءها العرب والإسرائيليين في المنطقة خصوصا بعد توقيع الاتفاق النووي مع إيران وعدم اتخاذها لموقف حاسم لإنهاء الصراع في سوريا أو حتى فرض حضر جوي و تحقيق منطقة آمنة على الأراضي السورية لاستيعاب أكبر عدد ممكن من اللاجئين.

- 4 الجماعات المناوئة للنظام كالجيش الحر وتنظيم داعش وجيش الإسلام وجبهة النصرة ....الخ، وهي قوى راديكالية تسيطر الآن على أراضي شاسعة تقدر بنحو 75% من سوريا حيث أصبح وجودها لافتا كما أن دورها العسكري يعتبر محوريا في مقارعة النظام وحلفاءه وجرهم إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، غير أنها جعلت الثورة السورية و الأزمة التي تمخضت عنها تتسم بالتعقيد هي الأخرى و الانحراف عن مسارها الأصلي علاوة على أنها تعتبر في نظر الكثير من الأطراف الدولية كبديل غير مرغوب فيه عن نظام الأسد الشيء الذي بدد آمال الثوار في تحقيق أحلامهم في إقامة دولة مدنية ديمقراطية علمانية حديثة.

وما يزيد من بعثرة الأوراق و تعقيد الوضع السوري ويجعل الصراع بهذا البلد يأخذ بعدا دوليا ناهيك عن اعتباره يهدد الأمن و السلم الدوليين هو أزمة اللاجئين السوريين، ليس فقط بالنسبة للدول المجاورة كتركيا التي تستضيف ما يناهز المليوني لاجئ على أراضيها أو الأردن الذي يستضيف حوالي المليون و نصف على الرغم من إمكانياته المحدودة أو لبنان الذي يستضيف ما يقارب تعداد ربع سكانه من اللاجئين على الرغم من إمكانياته الاقتصادية المحدودة كذلك وعجز أو تقاعس المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين عن المساعدة في تقليل الأعباء الناجمة عن استضافتهم، لكن ما جعل هذه الأزمة تطفو على السطح من جديد هو تدفق مئات الآلاف من اللاجئين على أوربا وهو ما أصبح يشكل هاجسا لدول الإتحاد الأوربي ككل، منذرا بانقسام في المواقف ووجهات النظر وواضعا القيم الأوربية على المحك وهي تتشكل أساسا من تيارين: الأول يتشكل من كرواتيا وصربيا و يتزعمه "فيكتور أوربان" Viktor Orbán رئيس الوزراء الهنغاري اليميني المحافظ الذي يدعو إلى التعامل بحزم مع اللاجئين من خلال سَن قوانين تجرم الهجرة غير الشرعية وإقامة أسلاك شائكة في المناطق الحدودية مع صربيا ينضاف إلى ذلك القانون الجديد الذي سنته السلطات المجرية و الذي يسمح باستعمال الذخيرة الحية ضد اللاجئين ضدا على المواثيق الدولية والقوانين ذات الصلة بحقوق الإنسان واللاجئين أثناء الحروب واتفاقية جنيف، متناسيا أن معظم سكان أوربا كانوا لاجئين في دول أخرى أثناء الحربين العالميتين الأولى و الثانية بما فيهم الشعب الهنغاري، أما التيار الثاني فتتزعمه ألمانيا و إيطاليا و فرنسا و الذي يدعو إلى اعتماد نظام حصص و تقسيم عادل للاجئين على الدول الأوربية ، غير أن ذلك قد ينذر بأزمة حقيقية تطبع العلاقات الدولية في ظل ما تعتبره الكثير من الدول الأوربية تهديدا وتقويضا لأمنها وسلامة أراضيها نتيجة تسلل بعض الإرهابيين أو تهديدا لنسيجها الديمغرافي والمجتمعي على اعتبار أن معظم اللاجئين هم من المسلمين وهو ما يدعو إلى استنفار المزيد من الجهود والمبادرات الدبلوماسية لإيجاد حل جدري للأزمة السورية من خلال تسوية سياسية تضع حدا لهذه الكارثة الإنسانية ,وهو ما يجعل الأمور مفتوحة على العديد من السيناريوهات في المستقبل المنظور بما في ذلك الحرب الاقتصادية وتوسيع نطاق العقوبات في حال تعذر التوصل إلى حل مع حلفاء نظام بشار الأسد، ذلك لأن أوربا لا يمكن أن تتحمل هكذا وضع في عقر دارها لمدة طويلة ولا يمكن أن تقف مكتوفة الأيدي أمام رأيها العام ومصالحها الحيوية.

المجتمع الدولي إذَن مطالب بالتدخل العاجل وبمسؤولية عبر مؤسساته وهيآته لوضع حد لهذه المأساة الإنسانية وعلى رأسها مجلس الأمن الدولي على الرغم من أنه قد أصبح عاجزا عن تقديم حلول أو الحسم في العديد من الصراعات والنزاعات الدولية و الإقليمية التي طال أمدها في الكثير من المناطق بسبب طبيعة بنيته المتقادمة و التي تعود إلى سنة 1945 أي بُعيد الحرب العالمية الثانية وما واكب المرحلة من حرب باردة وتقسيم للعالم إلى معسكرين شرقي شيوعي يتزعمه الإتحاد السوفياتي وغربي ليبرالي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية وبالتالي اختلاف الأولويات خصوصا بعد تفكك المعسكر الشرقي وانهيار جدار برلين، أو لطبيعة بنيته التنظيمية و المُشَكَّلة أساسا من قوى كبرى وأعضاء دائمي العضوية ومتمتعين بحق الفيتو وهي تستحكم في مصير أزيد من ست مليارات و نصف من البشر أي 191 دولة عضو بهيئة الأمم المتحدة وهي في مجملها متباينة المصالح والرؤى والسياسات، وهو الأمر الذي يٌعتبر مدعاة للتساؤل عن جدوى بقاء مجلس الأمن الدولي بشكله الحالي دون أن يخضع لتحيين وإصلاح واسعي النطاق على المستويين الهيكلي والقانوني حتى يتأتى له أن يسهر على الحفاظ على الأمن و السلم الدوليين بعيدا عن التقاطبات ومصالح القوى الكبرى وتجنيب العديد من الشعوب مآسي الحروب، و يضمن تمثيلية ومصالح أكبر عدد ممكن من الدول و الإثنيات والديانات كدول العالم الإسلامي مثلا والتي يناهز سكانها المليار ونصف، ويُغلب منطق التوافق والاحتكام لتصويت الأغلبية بدل منطق النقض أو الفيتو في تبني أو رفض القرارات المصيرية كقرارات السلم و الحرب والعقوبات الإقتصادية.