المدرسة الشركسية, صورة تاريخية وخبر - بقلم عادل عبدالسلام لاش


نشرالأخ الدكتورحسام توغوظ على موقعه في التواصل الاجتماعي صورة فوتوغرافية نادرة تعود إلى أوائل أربعينات القرن العشرين، تضم خمسة فتيان يعتمرون القلابق الشركسية، وشاباً أنيقاً يرتدي حلة أوروبية يجلس أمامهم على كرسي كتب تحتها:

طلاب الصف السادس قبل ذهابهم
من القنيطرة لتقديم اﻻمتحان في دمشق عام 1943

من اليمين: منير دوغوظ - كمال بارسباي- اكرم قات- عزالدين علي- عبد الوهاب قانقوش .واستاذهم عاكف خوناكو

وبعد استئذان الدكتور حسام صاحب الفضل في نشر الصورة، أرى تزويدها ببعض ما يخص الموضوع والأشخاص الذين عرفتهم كلهم عن قرب، رحمهم الله وأدام صحة الباقي منهم وهو الأخ أكرم قات وأطال في عمره. وبحسب وثائقي ومعلوماتي وجدت أن القول أن الطلاب هم طلاب الصف السادس كان يجب أن يكون أنهم طلاب الصف الخامس، لأن المدرسة الشركسية (الأديغية)، والمدرسة النموذجية الحكومية في كل المنطقة لم يكن فيهما أعلى من الصف الخامس، كما أن السنة المذكورة يجب أن تكون أسبق من 1943، لأن المدرسة الشركسية كانت قد أغلقت سنة 1942. وقد تأكدت من المعلومتين من الأخ أكرم قات الذي زودني مشكوراً ببعض ما سأسرده من أخبار تتعلق بالصورة. 

كانت المدرسة الأديغية (الشركسية) التي افتتحها المخلصون الشركس في مدينة القنيطرة حاضرة الجولان بناءاَ على المرسوم التشريعي رقم 1 الصادر سنة 1932 وعاشت (بين 1932-1942)، كانت أول مدرسة ابتدائية شركسية تدرس كافة مواد مناهجها باللغة الشركسية في الشتات العربي. ولقد أرخ لها وكتب عنها عدد من الأخوة الغيورين على توثيق حياة الشراكسة في سوريا والشتات العربي. كما أحتفظ بدوري بصفحات كثيرة عن تاريخ المدرسة أخذتها من عدد من أساتذة ومعلمين علموا فيها، ومن تلاميذ تعلموا فيها. جزاهم الله خيراً على ما زودوني به من معلومات وحكايات، وأخبار. وجعل مثوى من انتقل منهم إلى دار الآخرة الجنة. أذكر منهم، الأستاذ عاكف شريف خوناكَو، والأستاذ يحيى شركس، وفوازيوغار، وبدر الدين رمضان، وعبداللطيف خوبلوقوة، وأكرم قات، ونجدت قات، ومنير توغوظ الذي زاملني في دراستي الجامعية لأمد قصير، وكذلك صديقي الأستاذ عبدالمجيد النص، والأستاذ أبو الفرج العش، وكلاهما من المعلمين الذين كانت وزارة المعارف السورية تنتدبهم سنوياً لتدريس اللغة العربية في المدرسة، وغيرهم ممن كانوا من مصادر معلوماتي مثل الأستاذ فوزي تسه ي، والأستاذ محمد علي ماستروق، وسواهم ممن كانوا عوناً لي.

ولما كان الحي الوحيد الباقي والظاهر في الصورة هو الأخ أكرم قات (أبو هشام) أطال الله في عمره، لجأت إليه متسائلاً ومستفسراً عن صحة التعليق على الصورة، وعن بعض ذكرياته عن المدرسة الشركسية، فوجدته ملماً بأمور كثيرة، متمتعاً بذاكرة قوية وذهن وقاد. فأكد لي الكثير من الوقائع والمعلومات السابقة، واضاف إليها حقائق كنت أجهلها، أهمها (عملية ذهاب تلاميذ المدرسة الأديغية إلى دمشق لتقديم أمتحان السرتفيكا). و كذلك وصفه (سلوك معلميه وتفانيهم في تعليمهم وبناء شخصيتهم)، ولما كان أحدهم (عاكف خوناكَو) ظاهراً في الصورة، ركز أكرم حديثه عليه. فقال:

" كان في القنيطرة وفي الجولان كله مدرسة حكومية رسمية نموذجية وحيدة تقع عند المدخل الشرقي- الشمالي الشرقي للمدينة، تضم خمسة صفوف فقط، مناهجها هي نفس مناهج مدارس وزارة المعارف (وزارة التربية اليوم) السورية. تعاقب على إدارتها عدد من المثقفين الشركس حينذاك ، وكان من مدرائها على زماننا عمي الأستاذ (عبدالرحمن قات)، خلفه (الأستاذ فوزي تسه ي) ثم الأستاذ (عيسى حاغور الذي أدركته في سنة 1945 حين كنت شخصياً تلميذاً فيها في الصف الخامس. ع. ع. ل.)". 

أما مدراء المدرسة الأديغية فكان أولهم رفعت غوتوقو، ومساعدته زوجته سوزان سنة 1932 ، ثم الدكتور الطبيب محمد علي بشيحالوقو سنة 1933، ثم أمين سمكوغ سنة 1935، ثم عاكف خوناكَومن سنة 1936 حتى 1942. 

ويتابع أكرم الحديث فيقول: " وكنا نذهب من المدرسة الأديغية (الشركسية) إلى المدرسة الرسمية بعد حضورنا حصص المدرسة الأديغية أو قبلها. أي كنا ندرس في المدرستين معاً. وكان برنامج الدروس موضوعاً بشكل يوفق بين المدرستين. حيث كنا نداوم في المدرسة النموذجية ليوم واحد فقط، مرة كل ثلاثة أيام، وأحياناً مرة كل أسبوع، وذلك حسب التنسيق بين المدرستين، وبهدف التقدم لامتحان الشهادة الإبتدائية الحكومية وإنهاء الصف الخامس. وليس الصف السادس كما ورد في شرح الصورة، وهنا أشير- والكلام لأكرم- إلى خطأ آخر في االصورة هو أن تاريخ تقديم امتحاننا كان سنة 1940/1941 وليس سنة 1943، ولأن المدرسة الأديغية كانت قد أغلقت سنة 1942. ويذكر أكرم قات: " أنهم كانوا يستقبلوننا في المدرسة النموذجية بحماس وترحيب وتصفيق حاد، لأن أغلبنا كان يجيد العزف على البوق النحاسي، (البورظان) الذي نعرفه وكنا نعزف عليه في المدرسة الأديغية. وكثيراً ما كنا ندخل المدرسة النموذجية على موسيقى الأبواق. ولكوننا متفوقين على غيرنا في الرياضيات وحل المسائل الحسابية في المدرسة الأديغية، كان معلمو المدرسة الحكومية يشجعون تلاميذهم للاقتداء بنا والتعلم منا. وكنت واحداً من بين المجلّين في هذا الميدان".

" أما عن تقديم امتحان الصف الخامس في دمشق فقد كان حدثاً مهماً، ويحتل قمة اهتمامات مدراء المدرستين ومعلميها وكان هاجس أهلنا وحديث المجالس في القنيطرة والقرى الشركسية، وكان يأخذ طابعاً تنافسياً بين تلاميذ المدرستين. وكان حامل شهادة السرتفيكا في تلك الأيام إنسانا مرموقاً ومحترماً، وموضع فخر واعتزازلأهله ولمدرسته ومعلميه ولقريته والمنطقة بأسرها. وكانت المدرسة الأديغية لاتسمح لتلميذ بالتقدم للامتحان إن لم يكن مؤهلاً ونجاحه مضموناً 100%. وهكذا كانت مدرستنا تتفوق بنسبة النجاح على جميع مدراس دمشق وتوابعها بل وفي سوريا كلها ". 

"فبعد تحديد من سيتقدم منا للامتحان وكنا خمسة في العام الدراسي المذكور، كان المعلمون يكثفون جهودهم التعليمية، حتى أننا كنا نتعلم في الليل بدون أي مقابل. كما أوصانا المعلمون أن نطلب من أمهاتنا وأهلنا تحضير قوالب الجبن الشركسي المدخن والمقسّى، واللقوم، واللحم المقدد والمدخن على الطريقة الشركسية وغيره من مأكولات شركسية مقاومة للفساد، لنقتات بها في الصباح والمساء في أثناء وجودنا بدمشق. وأن نرتدي خير مانملك من ألبسة والإصرار على نظافتها. وكان الأستاذ عاكف يدقق على كل صغيرة وكبيرة، حتى نظافة أظافر لا اليدين فحسب بل والقدمين. ويرعانا كأب معتز بأولاده وكأم حنون. وطلب منا أن يدفع كل تلميذ مبلغ 5,5 ل. س، (نعم خمس ليرات سورية ونصف) (التي يمكن أن تعادل اليوم 50,000 ل.س.) مقابل نفقات الإقامة بدمشق مدة تقرب من الأسبوع في الفندق، إضافة إلى وجبة الغداء في المطعم وغيرذلك من مصاريف محتملة ".

وكنتُ في لقاء سابق سنة (1954) مع المرحوم الأستاذ عاكف خوناكَو سألته عن المدرسة فأفادني بمعلومات كثيرة عنها، أقتطف منها ما يتفق مع كلام الأخ أكرم المذكور، إذ قال رحمه الله، والكلام للأستاذ عاكف:

"لم يكن بمقدور ميزانية المدرسة الأديغية توفير نفقات تقديم تلاميذها أمتحان السرتفيكا، لاعتماد وجودها أصلاً على التبرعات والمعونات الهزيلة، لذا كان أهالي التلاميذ يتكفلون بتأمين النفقات المطلوبة وتزويدهم بالأطعمة وغيرها. وكنت أرافقهم إلى دمشق في أغلب السنوات، ولا أفارقهم أبداً، وكنا نقيم في فندق (الحرمين) في سوق التبن (شارع الملك فيصل فيما بعد)، ونتناول إفطارنا وعشاءنا مما جلبناه معنا من مأكولات. أما وجبة الغداء فكنا نتناولها في مطعم (الإنصاف) في السوق نفسه قريباً من سوق الدواجن. وكنت أتفق مع صاحبه على مراعاتنا في الأسعار". 

ولقد أتفقت أقوال الأستاذ عاكف مع أقوال الأخ أكرم، وأضاف إليها الأخ أكرم قصة طبق حساء العدس في مطعم الإنصاف بسرده الرواية التالية:

" رافقنا في رحلتنا إلى دمشق زميل لنا ليس من تلاميذ دفعتنا، وليس بهدف تقديم الأمتحان، هو الزميل سيف الدين صوقار، وفي أول وجبة لنا في المطعم كان الطبق الأول هو (حساء العدس)، فلما وضعوا صحن الحساء أمامه تأفف وأبدى امتعاضه، فسأله الأستاذ عاكف عن سلوكه، فأجاب سيف الدين:

لا أريد حساء العدس، فقد سئمت من أكله يومياً في بيتنا (وخرج العدس من مناخيرنا). فقال له الأستاذ عاكف رحمه الله:

هذا الحساء يختلف عن حساء العدس الذي تصنعه الأمهات في قرانا الشركسية، ففيه البصل والثوم وغيرهما من البهارات والمنكهات وخلافها، والتي لا تعرفها أمك، فما عليك إلا التجربة للمقارنة. فتذوق سيف الدين الحساءعلى مضض، لكنه وبعد الملعقة الأولى استساغ الحساء، و أفرغ صحنه بسرعة على الرغم من سخونة الحساء. وقام بعد ذلك بطلب صحن آخر منه بقوله (كمان صحن تاني!!)، لكن الأستاذ عاكف قال له أن هذا غير ممكن لأن الطبق التالي ألذ وأطيب من الحساء ".
وبالعودة إلى أقوال الأستاذ عاكف أضاف:

" لم نكن نكلف تلاميذنا بالدراسة والمراجعة قبل الإمتحان مباشرة، فمن ساعة وصولنا إلى دمشق كنت أقوم بالترفيه عنهم بالقيام بزيارة أماكن مختلفة في دمشق، مثل الجامع الأموي والأسواق، والذهاب معهم إلى الربوة وغيرها من معالم يسمح الوقت والنفقات بزيارتها. وذلك للتسرية ولتخفيف الضغوط التعليمية الكبيرة التي مارسناها عليهم في القنيطرة. خاصة وإنني كنت والمدرسة على ثقة تامة بنجاح تلاميذنا ".

كان الإمتحان مؤلفاً من شق تحريري تم في المكتبة الظاهرية وآخر شفهي جرى في مكتب عنبر حسب قول الأخ أكرم قات، بحضور كافة المُمتَحنين من كل مدرسة، ويذكر في هذا السياق حادثة تتعلق به إذ قال:

" تقدم تلميذ من مدرسة دمشقية للإمتحان الشفهي في مادة الحساب، أمام اللجنة الفاحصة التي كان من بين أعضائها المرحوم الأستاذ الشركسي ياشار ياور. وكان على التلميذ حل مسألة حسابية عسيرة، صعب عليه حلها، ومع تكرر محاولاته وفشله، نادى رئيس اللجنة على التلاميذ الحاضرين بقوله: مَن منكم يستطيع حل هذه المسألة ؟؟ فرفعت يدي قائلاً (أنا) وبصوت عالٍ. فطُلب مني التقدم إلى اللوح (السبورة) وحلها. ولما نجحت بحل المسألة وبصوت مرتفع صفق لي الجميع. وهنا حصلت معي المفارقة التالية، وهي أنني أعتبرت العملية نجاحاً لي في الامتحان الشفهي في الحساب، واتجهت للخروج من القاعة، لكني فوجئت برئيس اللجنة يقول: ارجع وين رايح !! هذا لم يكن امتحانك، وعليك أن تحل مسألة غيرها. فعدت ونجحت بحل مسألة جديدة، كما نجح زملائي من المدرسة الأديغية كلهم وبتفوق ".

ولقد ذكر الأخ أكرم أنهم اضطروا للبقاء في دمشق مدة أسبوع بانتظار فحص من وردت أسماؤهم في آخر قوائم المتقدمين للإمتحان الشفهي، وهو من بينهم. وعلى الرغم من طول المدة وتكاليفها، أعاد الأستاذ عاكف مبلغ 2.25 (ليرتين وربع الليرة) إلى كل منا، زادت عن النفقات كاملة ؟؟ رحم الله تلك الأيام. كما ذكر حادثة طريفة تتعلق بالصورة موضوع الحديث. مفادها أن أحد الظاهرين في الصورة وهو التلميذ عزالدين علي كان يصر على اعتمار القلبق الشركسي مائلاً باتجاه اليسار، على الرغم من تنبيهه على ضرورة إبقائه مستقيماً عموديأ التزاماً بما جرت عليه العادة والأعراف الشركسية، إلا ماندر. وكان الأستاذ عاكف كثيراً ما كان يصحح له وضعية قلبقه، ليعود عزالدين ليميله، حتى عجز الجميع عن إقناعه فتركوه.

كان للمدرسة الأديغية (الشركسية) التي عاشت عقداً من الزمن أن ترفع من شان اللغة والثقافة الشركسيتين في الشتات العربي، وترسخ أسس بناء أجيال مؤمنة بهويتها ومخلصة لوطنهاَ الثاني، لولا حقد الحاقدين و حسد الحاسدين وحرب المتشربين بمبادئ الإقصاء والتهميش، وتفضيل المصالح الشخصية، بل واستعمال العنف للقضاء على هذا المَعْلم الثقافي والروحي. ومع ذلك تبقى ذكرى هذه المدرسة ومن عمل على قيامها وفيها، وعلم وتعلم فيها منارة هادية لمن يسعى إلى إنقاذ اللغة والثقافة الشركسيتين. 

(أ.د. عادل عبدالسلام لاش) دمشق 2015.