د. عادل عبد السلام: فيسبوك
يعد عقد خمسينات القرن الماضي (العشرين) بداية نشاط اجتماعي وخيري وفني وصحي واسع للجمعية الخيرية الشركسية خاصة في عهد رئيس هيئتها الإدارية المرحوم الأستاذ فوزي تسه ي (كما كان أبو كمال يحب ان تكتب نسبته)، وكان لي شرف العمل معه أميناً للسر. فمع افتتاح المدارس الابتدائية كانت الجمعية توزع القرطاسية (الدفاتر والأقلام والممحايات والحبر) والحقائب المدرسية على تلاميذ مدارس القرى الشركسية والقفقاسية المختلفة. وكان رحمه الله يصر على قيامنا بتوزيعها على التلاميذ في صفوفهم مباشرة و بإشرافه. كما كنا كثيراً ما نعود من قرى حمص- حماه وحلب والجزيرة بكم سخي من تبرعات أهل الخير، وأذكر هنا ما جاد به شركس منبج وخناصر وحلب وشيشان راس العين من مبالغ مالية على الجمعية في زمن طفرة زراعة القطن في الشمال السوري. وكان النشاط الاجتماعي ومساعدة المحتاجين والأسر المستورة شبه محصور في الجنوب (في الجولان ودمشق خاصة)، علما أن الجمعية لم يكن لها فروع كما هو حالها اليوم وعدد أعضائها لايتجاوز بضع مئات، كما كانت المساعدات الرسمية والاشتراكات الشهرية تكاد لاتسد نفقات الجمعية الأساسية أحياناً، فكانت الهيئة الإدارية تلجأ إلى وسائل قانونية مختلفة لكسب ما أمكن من دخل، منها مثلاً حصولنا على إذن رسمي بعرض فيلم معركة (لينيغراد) الذي اتفقنا حوله مع سينما الفردوس في دمشق وعرضه في صالتها بأجر رمزي، على أن يعود ريعه إلى الجمعية التي أسهمت ببيع البطاقات.
لكن أبرز نشاط قامت به الجمعية في هذا المجال كان قرار إحياء حفل فني ومهرجان خيري لجمع التبرعات في حديقة في القصاع بدمشق، لجمع التبرعات، وذلك في شتاء سنة 1954 تحت رعاية رئيس مجلس الوزراء حينذاك المرحوم الأستاذ سعيد الغزي.
كان برنامج الحفل يضم كلمات وفقرات متنوعة عديدة أبرزها فقرتان غنائيتان الأولى للمغنية المعروفة بـ (فتاة دمشق) والثانية للمطرب الفنان اللبناني الصاعد (وديع فرنسيس) المشهور بـ (وديع الصافي). وكانت فقرات الرقص الشركسي آخر اللوحات التي تعمدنا تأخيرها، وانتظرها الجمهور بفارغ الصبر والترقب، إذ لم يغادر الحفل أحد قبل مشاهدتها، بمن فيهم الأستاذ سعيد الغزي راعي الحفل، حتى والمطرب وديع صافي، والفنانة فتاة دمشق، على الرغم من انتهاء وصلتيهما الغنائيتين.
كان العمود الفقري للحفل لوحات الرقص الشركسي. وحولها قصة تستحق أن تروى، إذ فوجئنا جميعاً بما لم يكن بالحسبان، حيث تمسك كبار السن في الجمعية ومن استشرناهم من خارجها برفض إشراك الفتيات في الرقصات الشركسية، وعدم السماح لهن بالرقص مع الفتيان على المسرح أمام جمهورعام غير شركسي. ولقد أثارت هذه المسألة حينها جدلاً واسعاً وحاداً في الأوساط الشركسية بين المؤيدين والمعارضين.
لدرجة رأى فيها بعض المغالين إلغاء فقرات الرقص الشركسي من الحفل، علما أنها كانت محور جذب الجمهور واستقطابه. ولقد عانينا (خاصة المرحوم عبدالوهاب يوسف تحرقواخو- الشهير بـ :حباب- وأنا، لأننا كنا دينامو ورأس المنظمين للحفل) الكثيرمن الصعوبات. وانتهى الجدل بالرضوخ لرأي التحماتات، واقتصار لوحات الرقص على الشبان فقط. أي كما يقال بالشركسي أصبحت الحفلة (خورخو جكَو Хъурыхъу Джэгу). وكان من يشاهدنا في ساعات التدريب في الجمعية يهزبرأسه مستنكراً، أو يبتسم أويعلق ساخراً. وعلى الرغم من غرابة الصورة لمن يعرف الرقص الشركسي الذي لايكتمل إلا بمشاركة الشاب والفتاة في إدائه، فوجئ الجميع بأن اللوحات التي قدمها الشبان كانت في غاية الجمال والروعة وحسن الأداء، وأثارت الإعجاب وعواصف من التصفيق الحاد. حتى أن قسماً كبيرأ صفق واقفاً بمن فيهم راعي الحفل، والفنان وديع الصافي الذي كان يصــــــــرخ بحماس قائــــلاً بلهجتة اللبنانية “ما صار، ما صار! شو هيدا يا خيي ؟؟ ” طالباُ الإعادة مرة أخرى. وكان فريق الرقص يضم ثمانية شبان أذكر منهم السادة ظافر نجيب، وفاضل لقمان، وعادل عبد السلام، وممدوح كوشباي، وفاروق أباظة، وعبدالله القبيسي وآخرون قدموا رقصة الويج جماعيأ، إضافة إلى رقصات القافا والششن والكَوشه غازه و القافا الرباعية وقدمتُ رقصة القاما (الخنجر) منفرداً.
انتهى الحفل وودعنا استاذ سعيد الغزي (الذي علمت أنه تبرع للجمعية بمبلغ سخي ، طبعاً من جيبه الخاص، (على عادة مسؤولي تلك الأيام، رحمها الله؟؟؟ )، وكان علي أن أدفع أجر الفنانين والمغنيين الذين تعاقدنا معهم. نقدتهم أجورهم، وأجلت تسليم المظروف الخاص بأجر فتاة دمشق ووديع الصافي لما بعد مشاركتهم لنا في المأدبة التي دعوناهما مع فريق الرقص الشركسي إليها. وفي أثنائها أثنى وديع الصافي على الفن الشركسي والرقص الذي يراه لأول مره ولم يشاهد نظيراً له أويسمع به في حياته، وأطنب في المديح وزاد في الإطراء وفي الإعجاب. وطلب أن تلتقط له صورة وحدة ومعنا وهو يرتدي الزي القومي الشركسي للرجال، وتمت تلبية رغبته، ثم رجانا أن نعطيه لمحة عن الشركس والجمعية، لأنه لم يتوقع أن يعيش هذه التجربة الفريدة مع هؤلاء الناس المنظمين، وقال:
” حين اتفقت مع الاستاذ عادل على المشاركة في حفلتكم وعلى الأجر، لم أعرف ماهي الجمعية الشركسية، واعتقدت أنها كغيرها من الجمعيات والجهات الأخرى التي شاركت في إحياء حفلاتها، لكني وجدت أنكم غير من تعاملت معهم، روحوا الرب يوفقكم والعدرا تحميكم….” .
بعدها انتحيت به جانباً و نقدته أجره في مظروف وكان المبلغ 10.000 ليرة سورية. استلم المظروف مني وأدار ظهره لي لفترة اعتقدت أثناءها أنه يحصي المبلغ، لكنه استدر وأعاد لي المظروف قائلا: ” لم أعرف أمر جمعيتكم سابقاً، ولو كنت أحمل مبلغاً أكبر لتبرعت به”، و كان المبلغ في المظروف قد أصبح 30,000 ل.س. كما تبرعت فتاة دمشق بأجرها لصندوق الجمعية أيضاً. ارسلت له برقية اطمئنان على صحته على إثر عملية القلب المفتوح التي أجراها في تسعينات القرن الماضي (لاأذكر تاريخها الدقيق).
رحم الله وديع الصافي المطرب والملحن الذي عرفه كل العرب قمة في الغناء الأصيل، و عملاقاً للطرب اللبناني والعربي، والذي عرفناه نحن إلى جانب ذلك كله إنساناً وصديقاً محباً للشركس وكأنه يغني لهم (طلوا حبابنا طلوا، نسم يا هوا بلادي؟؟؟ القفقاس؟؟)، توفي سنة 2013 وخلد لنا أغانيه.