رغم أن البلدين حظيا خلال السنوات الأخيرة بعلاقات طيبة واهتمامات مشتركة في مجال الطاقة، إلا أن حادثة إسقاط القوات الجوية التركية طائرة روسية الثلاثاء 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 تأتي في لحظة تشهد توتراً كبيراً في العلاقات بين الدولتين.
فقد أثار تدخل موسكو في النزاع السوري نيابة عن الرئيس بشار الأسد منذ نحو شهرين حفيظة أنقرة التي تزعمت الدعوات الدولية المطالبة برحيله.
ويشهد تاريخ البلدين سلسلة من الأحداث التي تشي بتوتر العلاقات بين الحكام الروس والأتراك.
الوصول للمياه الدافئة
تاريخ العلاقات الروسية التركية يعود إلى القرن 16، فروسيا لطالما رغبت بالحصول على ميناء على البحر الأسود كخطوة أولى في إطار استراتيجية "الوصول للمياه الدافئة"، هذه الرغبة كانت سبباً في اندلاع الحروب لاحقاً.
ومع توقيع معاهدة إسطنبول عام 1700، التي وضعت نهاية للحرب الروسية العثمانية التي استمرت أكثر من مئة عام، تمكن الروس من السيطرة على قلعة آزاك القريبة من البحر الأسود، وبهذا أصبحت روسيا تمتلك ميناء على البحر الأسود، وبدأت أطماعها تتوجه صوب الجنوب عن طريق السيطرة على أراضي الدولة العثمانية.
العثمانيون أطلقوا حينها على الروسي لفظ "موسكوف" والذي يعني "سلافيو الشمال البريين"، لكن دلالات الكلمة تغيرت فيما بعد مع تزايد الصراعات بين البلدين.
هجوم تشاشمة
تعتبر حادثة "هجوم تشاشمة" إحدى أقصى الضربات التي تلقتها الدولة العثمانية من الروس. ففي عام 1770, عبرت البحرية الروسية المحيط الأطلسي بإذن من إنكلترا, ووصلت إلى البحر الأبيض عبر مضيق جبل طارق، ووجه الروس ضربة مباغتة للسفن العثمانية في منطقة "تشاشمة" أدت إلى دمارها الكامل. يستذكر الأتراك هذه الواقعة باسم "هجوم تشاشمة".
وكخطوة ثانية، أدت معاهدة "كاينارجا" الصغرى عام 1774 إلى فصل خانية القرم عن الدولة العثمانية، وتم إعلان استقلالها. لكن بعد سنوات فقط وفي عام 1783 قامت روسيا باحتلال خانية القرم لتعزز من وجودها في البحر الأسود.
وبهذا ولأول مرة، تخسر الدولة العثمانية منطقة يسكنها المسلمون. وتم تهجير التتار المسلمين إلى الأراضي العثمانية. الجرائم التي ارتكبها الروس حينها في القرم ساهمت في انتشار لفظ "موسكوف" بشكل أوسع وأعمق بين الأتراك.
الحرب الباردة
ففي أثناء الحرب الباردة، كانت تركيا حصناً مسلحاً لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في مواجهة الإمبراطورية السوفييتية.
وقبل نشأة الاتحاد السوفيتي وجمهورية تركيا الحديثة، كان للمناورات بين الروس والأتراك تأثير كبير على المصير السياسي لمناطق واسعة من أوروبا والشرق الأوسط.
عمليات الترحيل والقتل الجماعي
خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، خاضت الإمبراطورية الروسية التوسعية ضد العثمانيين مجموعة كبيرة من الحروب التي أدت إلى انتكاسة الدولة العثمانية وسيطرة الروس على الجزء الشمالي من البحر الأسود والتقدم تدريجياً نحو مناطق هيمنة الدولة العثمانية في شرق أوروبا وإقليم البلقان.
وأسفرت حرب القرم خلال خمسينيات القرن التاسع عشر عن إقامة تحالف بين القوى الأوروبية دفاعاً عن الدولة العثمانية.
واعتبر حكام كلتا الإمبراطوريتين أنفسهم حاملي مشعل الحضارة – الدولة العثمانية باعتبارها موطن الإسلام والروس بصفتهم ممثلي الكنيسة الأرثوذكسية والمخلصين لتراث الدولة البيزنطية القديمة.
ورغب القياصرة الروس في الحصول على إسطنبول ورأوا أن غزوها سوف يمهد الطريق نحو المياه الدافئة للبحر المتوسط وفرض السيادة على الأراضي المقدسة.
مذابح جماعية بحق الشركس
شهدت الحملات الروسية في منطقة القوقاز والأقاليم المحيطة بالبحر الأسود العديد من المذابح وعمليات ترحيل المسلمين الأتراك.
وفي عام 1864 على سبيل المثال، نفذت القوات الروسية ما اعتبره البعض "أولى المذابح الجماعية بقارة أوروبا" بعد السيطرة على أراضي الشركس – التي تتضمن المنطقة المحيطة بسوتشي، حيث أقامت روسيا دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية في العام المنصرم.
وتعرض مئات الآلاف من الشركس للقتل الجماعي، بينما لقيت أعداد لا حصر لها حتفها من جراء الجوع والبرد. وتشير بعض الإحصائيات إلى مصرع نحو مليون شخص في ذلك الحين.
إثارة النزعة القومية
لعبت روسيا خلال القرن التاسع عشر دوراً بارزاً في إثارة النزعة القومية في أجزاء من أوروبا الشرقية ومنطقة البلقان التي كانت تخضع للإمبراطورية العثمانية.
وشاركت روسيا في العديد من حركات التحرر خلال ذلك القرن بدءاً من اليونان إلى صربيا وبلغاريا. وأدى ذلك الدور إلى المنافسة الجغرافية مع إمبراطورية النمسا والمجر، وما لحق ذلك من التوتر الذي أدى إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى.
وضعت الحروب التي نشأت في أواخر القرن التاسع عشر، بما في ذلك الحرب الروسية- التركية بين عامي 1877-1878 وحروب البلقان اللاحقة التي سبقت الحرب العالمية الأولى حدوداً واضحة لبلدان شرق أوروبا.
"موسكوف" على مشار إسطنبول
احتلت روسيا منطقة البلقان، وتم تهجير المسلمين من سكان تلك المنطقة باتجاه أراضي الدولة العثمانية، ومع تدخل القوى الأوروبية تم توقيع معاهدة سلام, وتم إيقاف الروس وهم على مشارف إسطنبول.
في الحرب العالمية الأولى، دخل الروس والأتراك الحرب كل في جبهة، وفي العام الأول من الحرب تمكن الروس من احتلال جميع الأراضي في منطقة شرق الأناضول. واضعين نصب أعينهم الوصول إلى أضنا وإسكندرون وبالتالي التوسع في البحر الأبيض المتوسط. لكن الثورة البلشفية التي وقعت في روسيا عام 1917 دفعت بالقوات الروسية إلى التراجع عن تلك الأراض. لكن الأتراك لم ينسوا لفظ "موسكوف" الذي أصبح يحمل معنى "القتلة" أيضاً.
خلال الحرب العالمية الثانية 1939 – 1945 وجه ستالين عدة تهديدات لاحتلال مضيق البوسفور ومدينة إسطنبول. تركيا لم تدخل الحرب لكنها وقفت مع القوى الأوروبية نتيجة تهديدات ستالين لها.
هذه التهديدات كان لها الأثر الكبير في انضمام تركيا لحلف الناتو.
وبعد عدة سنوات وفي عام 1979، ومع احتلال روسيا لأفغانستان، بدأ الأتراك يستخدمون لفظ "موسكوف" مجدداً. ثم وفي عام 1994 ومع الحرب الروسية الشيشانية والمجازر التي ارتكبتها روسيا هناك، ازدادت مشاعر العداء والنقمة لدى الأتراك تجاه الروس.
خريطة الشرق الأوسط
تعد الخريطة السياسية للشرق الأوسط الحديث نتاجاً للتخطيط الفرنسي والبريطاني في أعقاب الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية العثمانية.
ولعبت روسيا دورها أيضاً من خلال الموافقة على اتفاقية سايكس-بيكو التي تم بموجبها ترسيم حدود المنطقة بصفة جزئية.
ألغت الثورة البلشفية بعض الالتزامات التي تم التعهد بها لصالح موسكو والتي تضمنت السيطرة على إسطنبول وفرض الحماية على شرق الأناضول. ومع ذلك، كان الخبراء الاستراتيجيون في ذلك الحين على دراية كاملة بقدرات روسيا.
وواجهت الدول العربية التي نشأت حينذاك تحديات الحوكمة والهوية والعرقية التي لا تزال تحمل آثار النزاعات القديمة.
بالنظر إلى الفترة بين 1700 وحتى 2015 حيث تقف روسيا الآن إلى جانب الرئيس السوري بشار الأسد، استطاع لفظ "موسكوف" أن يجمع بين الأتراك على اختلاف اتجاهاتهم السياسية وأعراقهم أتراكاً كانوا أم أكراداً أم علويين أم سنيين، وقف الجميع تحت مظلة "موسكوف".