محمد عبدالله محمد ... كاتب بحريني
تُرى، ما هو الهاجس الدائم لأيّ حاكم في هذا العالم؟ الجواب على ذلك، يأتينا من وصف ما هو عليه من وضع كونه حاكم لدولة. والدولة هي عبارة عن أرض وشعب ونظام سياسي، وبالتالي فهاجسه هو ضمن هذه الثلاثية.
لكن، وإذا ما تذكرنا قول الفيلسوف الصيني القديم منسيوس: وهو «إن الناس هم أهم عناصر الأمة والدولة، وإن الملك أقل هذه العناصر شأناً» يَظهَر لنا أن الهاجس المنطقي والأول هو الرَّعيَّة التي يتأمَّر عليها الحاكم.
لكن، وإذا ما تذكرنا قول الفيلسوف الصيني القديم منسيوس: وهو «إن الناس هم أهم عناصر الأمة والدولة، وإن الملك أقل هذه العناصر شأناً» يَظهَر لنا أن الهاجس المنطقي والأول هو الرَّعيَّة التي يتأمَّر عليها الحاكم.
فالدول وسلالات حكامها وحتى الحضارات تزول. وكما قال توينبي فإن الحضارات تنعقد نطفتها وتولد وتنمو وتزدهر وتأفل وتتحجر. لكن الناس تبقى. حتى الشعوب التي أبِيْدَت دولها ظلوا شعوباً وجماعات، كما حصل مع الشراكسة، ولـ 1.3 مليون يوناني في تركيا ولـ 320 ألف أرمني بعد الحرب الكونية الأولى، وهو حال الفلسطينيين والأفغان والسوريين وكل الدول المنهارة (أو تكاد).
أما الأرض، فلا قيمة للدولة إن لم يكن فيها شعب وبشر يعمرونها. ومن الأشياء الطريفة هنا، أن أحد عشر مكاناً في العالم ليس لها صفة دولة أو سيادة أو نِدِّية سياسية كونها خالية من البشر عملياً، بسبب هيمنة الحيوانات عليها كما في جزيرة سيل الصخرية الجنوب إفريقية أو جزيرة القردة الليبرية أو جزيرة الثعابين في إيلا كيمادا غراندي أو جزيرة الكريسماس في استراليا.
إذاً، نحن نتحدث عن هاجس الحكم (أيّ حكم) وهو المتمثل في الشعوب والناس. وما دام الحال كذلك،
فإن التحدِّي الأكبر بالنسبة للحاكم هو أن يكون مقبولاً بالنسبة لذلك الشعب الذي يحكمه، وهو محفوظ الكرامة عنده، مطيعاً له. فـ «لا إمرَةَ لمن لا يطاع» كما جاء في الأثر. وعندما نقول الطاعة، فإننا لا نتحدث عن الطاعة القهرية، بل الطاعة الطوعية، التي يستجيب فيها الناس (في غالبيتهم) إلى واجباتهم بدافع ذاتي، وهي الصورة المثلى للطاعة والسيادة.
هنا يأتي السؤال الكبير حول كيفية حصول الحاكم على تلك الطاعة من رعيته. وللإجابة على ذلك أذكر جواباً شافياً مُحكماً ذكره الطرطوشي ونقله عن قاضي القضاء لأحد ملوك فارس القدماء عندما سأله المَلِك: «ما شيءٌ واحدٌ يُعَزُّ به السلطان؟ قال: الطاعة. قال: فما ملاكُ الطاعة؟ قال: التوَدُّدُ للخاصة، والعدلُ على العامة». وهذا القول باعتقادي، واحدٌ من أهم النصائح التي يجب أن تُكتَب بماء الذهب، وعلى الحكَّام أن يقرأوها جيداً ولا ينسوها طيلة تسيّدهم على الرّعيّة.
فالعدالة أمر مهم لكسب احترام الناس ولإعلان شأن المُلْك وجعله عزيزاً متمكناً. وقد قلت سابقاً إن المُلْك شيء عظيم، وهي بالمناسبة لفظة وَرَدَت في القرآن تسعاً وأربعين مرة لأهميتها، لكن عَظَمَة المُلْك ليست في جاهِه ولا في رفاهِهِ ولا في قوتهِ ولا في يسار صاحبه، بل هي في حجم ما هو عليه من مسئولية، تجاه شعبه، وكيف يسوسهم، فمتى يعفو، ومتى يؤدِّب، ومتى يحنو، ومتى يأمر، ومتى ينهى، مرتكزاً على الشفقة كونها جوهر القانون كما كان يقول شكسبير.
وقد أعجبني تفسير للمرحوم الشيخ محمد أبو زهرة (1898 - 1974) للآية 26 من سورة ص: «يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَاب». فهو حين يُفسِّر الآيات من 21 لغاية 26 يصل إلى ثلاث استنتاجات فيما يتعلق بنبي الله داوود وطريقة الحكم الأمثل.
وأهم تلك الاستنتاجات الفصل بين الحكم الظالم والحكم العادل وهو أن الحكم الظالم يسوس الناس تحت سلطان الهوى الشخصي. فـ «الحكام المستبدِّون يكون مصدر شرّهم أهواؤهم، فهم يتبعون أهواءهم فيما يحكمون به» النابعة من حرصهم على كرسي السلطة وليس كرسي الحق والعدل، الذي «قد» يحكم إلى غير صالحهم وبالتالي فهم يعاندون ويبغون.
ومن النصوص الجميلة والحازمة في مراعاة العدالة هو ما ذكره الإمام الشافعي في مسألة التقاضي حيث قال: «ينبغي للقاضي أن يُسَوِّي بين الخَصْمَيْن في خمسة أشياء: في الدخول عليه، والجلوس بين يديه، والإقبال عليهما، والاستماع منهما، والحكم عليهما». ثم يقول: «ولا ينبغي أن يُلقِّن واحداً منهما حُجَّتَه، ولا شاهداً شهادته؛ لأن ذلك يضُرّ بأحد الخَصْمَيْن، ولا يُلَقِّن الْمُدَّعِي الدَّعوى والاستحلاف، ولا يُلَقِّن الْمُدَّعَى عليه الإنكار والإقرار، ولا يُلَقِّنُ الشهود أن يشهدوا أو لا يشهدوا، ولا ينبغي أن يضيف أحد الْخَصْمَيْنِ دون الآخر؛ لأن ذلك يَكْسِرُ قلب الآخر، ولا يُجِيب هو إلى ضيافة أحدهما، ولا إلى ضيافتهما ما داما مُتَخَاصِمَيْن». وهذا شكل من أشكال تعزيز الحكم والطاعة.
في المحصلة، فإن من المهم، أن يشعر الحكام أن هؤلاء الناس هم في مقام أبنائهم. فلا يؤذونهم ولا يسرقونهم ولا يظلمونهم بل يعطفون عليهم. فالتشاركية القائمة بين الطرفين توازي شراكة الدّم: ففي كل المفردات جاءت العلاقة بالتلازم (الحاكم والمحكوم/ الراعي والرعية/ السَّائِس والمسوس) وهي في الحقيقة تمنح الحاكم صفة الأبوَّة لشعبه، وتمنح الناس صِفة البُنُوَّة له كما أشرت من قبل.