عادل عبدالسلام (لاش) دمشق 2015
تحدثت في مقال سابق عن المؤرخ الشركسي الكبير شورا بتشمرزه نغومه وكتابه (تاريخ الشعب الشركسي)، وأشرت في ثناياه إلى الدكتور شوكت المفتي وإلى دوره في تعريفنا بالكتاب.
وفي هذا المقال سأحاول إعطاء المرحوم المفتي البعض من ما يستحقة من تكريم وإحياء لذكراه في مجال خدمته أمته وثقافتها، ونقلها إلى رحاب الثقافة العربية من خلال ترجمته كتاب شورا إلى اللغة العربية، وتأليفه كتاب (أبطال وأباطرة في تاريخ القوقاس)، إضافة إلى إغنائه ثروة المكتبة الشركسية اللغوية بسفره الألماني القيم عن (اللغة الشركسية ومقارنتها باللغات القفقاسية الأخرى).
وفي هذا المقال سأحاول إعطاء المرحوم المفتي البعض من ما يستحقة من تكريم وإحياء لذكراه في مجال خدمته أمته وثقافتها، ونقلها إلى رحاب الثقافة العربية من خلال ترجمته كتاب شورا إلى اللغة العربية، وتأليفه كتاب (أبطال وأباطرة في تاريخ القوقاس)، إضافة إلى إغنائه ثروة المكتبة الشركسية اللغوية بسفره الألماني القيم عن (اللغة الشركسية ومقارنتها باللغات القفقاسية الأخرى).
فبعد مضي قرابة القرن على تأليف شوره نغومه لكتابه(سنة 1843)، قيض الله للشركس عالماً آخر ليعرف بني قومه من شركس الشتات على الكتاب بترجمته إلى اللغة العربية، هو الدكتور شوكت محمد المفتي من أل حبجوقة الشركسية الأردنية الكريمة. الذي ولد في عمان وترعرع فيها ودرس فيها وفي دمشق. وأتم تحصيله الدراسي العالي في جامعة برلين بين سنتي 1922-1932 حيث درس الطب، ثم تخصص في طب العيون ليعود إلى الأردن ويمارس مهنته. ويشغل منصب وكيل وزارة الصحة الأردنية، ليعين بعد ذلك سفيرأً للمملكة الأردنية في أنقرة بين 1963- 1965. ويبدو أن اهتمامات المرحوم شوكت بالأمور الشركسية تبلورت أثناء وجوده في ألمانيا وإتقانه للغة الألمانية، وتعرفه على الأدبيات الألمانية حول الشركس خاصة، والقفقاس عامة، سيما حول اللغة والتاريخ الشركسيين. وكان يوفق بين دراسة الطب وشغفه بالأمور الشركسية بشكل لم يسبب له أي مشكلة في نيل شهادة الكتوراه في الطب، وهذا يذكرني بوضعي المشابه لوضع الكتور شوكت وفي جامعة برلين، ولكن بين سنتي 1960-1965 في زمن تقسيم برلين وألمانيا إلى غرب وشرق.
انخرط الدكتور شوكت المفتي منذ رجوعه إلى عمان في النشاط الثقافي والاجتماعي الشركسي الذي تجلي في جهوده ونشاطاته في الهيئة التأسيسة للجمعية الخيرية الشركسية في الأردن منذ سنة عودتة من الخارج سنة 1932 وحتى آخر أيامه، كما تجلى في انتخابه رئيساُ للجمعية سبع مرات حتى عام 1958. فكان" أكثر أعضاء الجمعية الشركسية تولياً لمنصب الرئاسة" كما يذكر فيصل موسى حبطوش خوت أبزاخ في كتابه (أعلام الشراكسة) ،عمان 2007 .
لكن ذلك لم يعقه عن نشاطاته الثقافية الشركسية، إذ ترجم كتاب شورا نغومه المذكور أعلاه، الذي كان باكورة إنجازاته. ترجمه عن النسخة الألمانية التي ترجمها أدولف بيرجيه عن الروسية وطبعت في لايبزيع سنة 1866. أتبعه بإنجاز تاريخي قيم باللغة العربية نشره سنة 1962 هو كتاب ( أباطرة وأبطال في تاريخ القوقاس)، الذي تمت ترجمته إلى اللغة الإنكليزية سنة 1973، ثم إلى اللغة الروسية سنة 1994.
عرفت المرحوم من خلال كتاب المؤرخ الشركسي شورا بكمرزة نغومة " تاريخ الأمة الشركسية"، الذي ألفه في اربعينات القرن التاسع عشر. وتمت ترجمته من الألمانية إلى العربية على يد المرحوم الدكتور شوكت المفتي (حبجوقة) باسم: " موجز تاريخ الجركس" عمان 1953. وكنت سعيداً باقتنائه وقراءته مرات ومرات مع تعليقاتي على ما جاء فيه. لكني وجدت صعوبات كبيرة في معرفة النصوص الشعرية للملاحم الشركسية و الأسماء على الرغم من الجهود الجبارة التي بذلها المرحوم شوكت لتذليل تلك العقبات، لأنها مرت بمراحل ترجمة من الشركسية إلى الروسية فالألمانية ثم إلى اللغة العربية، تحرفت فيها التسميات والقصائد والأناشيد وغيرها. لكن حصولي على طبعته باللغة الشركسية منقحة ومحققة من نالشيك في سنة 1958 ذللت كل الصعوبات وأجابت عن كل التساؤلات. وكان أول من فكرت به مع وصول هذا الكتاب إلي وضرورة الإطلاع عليه، هو إيصالع إلى مترجمه إلى اللغة العربية الدكتور شوكت المفتي. خاصة وأن صديق مراسلتي خِمبزر في الوطن الأم أرسل لي نسختين منه (واحدة تجيلدها عادي، وأخرى فاخرة التجليد).
لم أكن أعرف الدكتور شوكت شخصياً، لكن اهتماماته وإنجازاته كانت معروفة، وكنت على ثقة تامة بعدم معرفتة بالطبعة الشركسية الأخيرة، فقررت إرسال إحدى النسختين إليه. لكن الوضع السياسي بين سورية و الأردن كان سيئاً ولا يسمح بدخول مطبوعات سوفييتية من سورية وغيرها إلى الأردن. وترددت كثيراً في إرسالها إليه بالبريد خوف مصادرة الكتاب، واحتمال الإساءة إلى الدكتور شوكت. ولما كان التواصل بين سورية والأردن محدوداً انتظرت الفرصة المناسبة، التي جاءت من جهة غير متوقعة. ففي أحد الأيام زارني في منزلنا في المهاجرين بدمشق شخص عماني ومعه ابنه الذي يريد تسجيله في كلية الحقوق في الجامعة السورية (جامعة دمشق اليوم) هو السيد عمر تحقواخوه والد الوزير المفوض السابق في وزارة الخارجية الأردنية الأخ عبدالحميد عمر تحقواخوه. ولقد تكررت زيارات أبو عبد الحميد، لدمشق للاطمئنان على سير دراسة ولده عبدالحميد، وعلمت منه أنه يعمل في قطارات الخط الحديدي الحجازي بين عمان ودمشق. وكان على صلة بالدكتور شوكت. ولما أخبرته بشأن الكتاب وصعوبة إيصاله إليه، أبدى استعداده لتسليم الكتاب للدكتور باليد. وهذا ما حصل، وكتب لي الكتور شوكت على إثرها أرق رسالة عرفتها وأكثرها تعبيراً عن سعادة عالم عارف بقيمة ما أرسل إليه. لقد كانت سعادته كفرحة طفل بهدية العيد وأكثر. وهي من الرسائل التي أصونها إلي اليوم. وهكذا بدأت معرفتي بالمرحوم الدكتور شوكت، عن طريق الرسائل، كما كانت تصلني أخباره بين الحين والآخر. لكن تراسلنا ازداد نشاطاً وأهمية بين سنتي 1960 - 1965. وهي فترة دراستي في جامعة برلين الحرة في برلين الغربية.
بقيت طوال السنوات الخمس على علاقة وتواصل مع المرحوم الدكتور شوكت المفتي، الذي اكتشفت ضلوعه لا بتاريخ الشركس فحسب ، بل واهتمامه البالغ باللغة الشركسية. و كنت أتبادل معه الآراء والمعلومات حولهما، بالرجوع إلى المصادر الألمانية في مكتبات برلين التي قرأت فيها النسخة الألمانية لكتاب (موجز تاريخ الجركس) المذكور أعلاه وغيرها من مكتبات مدن ألمانية كان ينقب فيها عن أصغر معلومة متوفرة عن الشركس يرشدني إليها ويسألني عنها. ولما كان الدكتور شوكت بصدد تأليف كتاب في علم اللغة الشركسية ومقارنتها، انصبت رسائله على تكليفي بالبحث عن كم كبير من الكلمات والتعابير اللغوية في لغات مختلفة وفقهها، ليقارنها بما يماثلها في اللغات القفقاسية والشركسية في إطار الأسر اللغوية المعروفة، كالهندو- أوروبية والآرية وغيرها. ومما يسر أعمال البحث والتنقيب في هذا المجال كون الدكتور شوكت ملماً باللغات الشركسية والعربية والإنجليزية والألمانية والتركية والفرنسية. وهي لغات لم أكن غريباً عنها أيضاً. ويسرني أنني كنت عوناً له في جمع المعطيات التي يطلبها مني من المكتبات الألمانية. كما أنني اكتسبت من خلال ذلك معرفة وخبرة لغوية عامة، عرفتني بكثير من خفايا اللغة الشركسية والأخرى القريبة منها. كما نشر المرحوم في أثناء دراستي في برلين كتابه التاريخي المشهور (أبطال وأباطرة في تاريخ القوقاس) سنة 1962، اتبعه كما تقدم بنشر كتابه اللغوي سنة 1978.
ومما يحز في نفسي أنني لم أحظ بلقائه والتعرف علية شخصياً قبل وفاته سنة 1980، وذلك على الرغم من زياراتي القليلة إلى عمان وتصادفها مع غيابه عنها. رحم الله الدكتور شوكت لقد كان عالماً عَلَماً خدم أمته وترك لنا آثاره المخلدة لذكراه.
عادل عبدالسلام (لاش) دمشق 2015