الروس والسيطرة على القوقاز


بعد النجاح في إخماد الحركة الانفصالية في الشيشان الواقعة في شمال القوقاز الروسي، تمكنت روسيا في أعقاب حربها مع جورجيا في العام 2008 من السيطرة الكاملة على إقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، الساعيين منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين إلى الانفصال عن جورجيا، والواقعين في ما يسمى جنوب القوقاز. فقد اعترفت موسكو بهذين الاقليمين كدولتين مستقلتين عن تبليسي، برغم أنها كانت تُقر بهما كجزء من جورجيا وفق الترتيبات التي ترسخت على المسرح الدولي، نتيجة انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي السابق. غير أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية و «حلف شمال الأطلسي» رفضوا الاعتراف باستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن جورجيا.

وبدأت روسيا، في شهر أيار من العام 2009، بنشر وحدات عسكرية تابعة لقوات حرس الحدود الروسي على الحدود بين أوسيتيا الجنوبية وجورجيا، وفعلت الأمر نفسه بالنسبة إلى أبخازيا. وجاء هذا تنفيذا لاتفاقيتين وقعتهما روسيا مع كل من أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، أثارتا قلق الولايات المتحدة الأميركية و «حلف شمال الأطلسي». ولكن موسكو لم تعر هذا القلق أي اهتمام، مُعتبرة أن شن جورجيا الحرب على أوسيتيا الجنوبية هو ما أدى إلى ترسيخ انفصال هذا الإقليم مع أبخازيا عن تبليسي، ومُذكرة بما فعله الغرب مع كوسوفو. ومن المعروف أن أبخازيا سعت للاستقلال عن جورجيا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، حيث وصل تدهور العلاقات بينها وبين جورجيا إلى ذروته في العام 1990. وأدى هذا التدهور في مطلع تسعينيات القرن الماضي إلى نزاعات مسلحة طاحنة خلّفت أكثر من 20 ألف قتيل. وفي العام 1994، أقرت أبخازيا دستوراً خاص بها، وأعلنت استقلالها عن جورجيا، ثم أجرت استفتاء في العام 1999 على دعم إقامة دولتها المستقلة، ولكن كل هذا لم يلق قبولا من المجتمع الدولي.

ولم تتوقف موسكو في ما يتعلق بأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عند هذا الحد، بل سارعت إلى توقيع اتفاقيتين معهما لإقامة قواعد عسكرية روسية على أراضيهما. ففي شهر أيلول 2009، وقع وزراء دفاع روسيا وأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا اتفاقيتين حول التعاون العسكري، تمنحان موسكو حق إنشاء بنى تحتية وقواعد عسكرية في الإقليمين، واستخدامها وتطويرها مستقبلا. ووُقعت هاتان الاتفاقيتان لفترة 49 عاما، مع إمكانية تمديدهما تلقائيا لفترة خمس سنوات. وبالفعل تم إنشاء هذه القواعد العسكرية الروسية في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، حيث يُرابط فيها أكثر من سبعة آلاف من العسكريين الروس مع أسلحتهم ومعداتهم العسكرية. وكان هذا تأكيدا واضحا على أن الروس لن يتراجعوا عن الاعتراف باستقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. فهذا الاستقلال يعني بالنسبة إلى الكرملين العودة العسكرية إلى القوقاز والتأثير على مسارات نقل الطاقة من هذه المنطقة ومن منطقة آسيا الوسطى، إضافة إلى تحصين الأمن القومي الروسي في هذه البقعة الحيوية بالنسبة إلى روسيا.

وأقدمت موسكو، في نهاية العام الماضي وربيع العام الجاري، على توقيع معاهدتين للتحالف والتكامل الاستراتيجيين مع كل من أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، وصفهما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالتاريخيتين. وما كان من جورجيا، ومعها الولايات المتحدة الأميركية و «الناتو» وبعض الدول الأوروبي، إلا التنديد بهاتين المعاهدتين. فوزارة الخارجية الأميركية أعلنت أن واشنطن لا تعترف بشرعية المعاهدتين، واصفة كلا من أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا بالمنطقتين المحتلتين، ومؤكدة أن هاتين المنطقتين هما جزء لا يتجزأ من جورجيا. والملاحظ أن المعاهدة بين روسيا وأبخازيا، على سبيل المثال، تنص على أن «أي هجوم يتعرض له أحد الطرفين من قبل دولة أو مجموعة دول يعد هجوماً على الطرف الآخر، ومن ثم يقوم طرفا المعاهدة بتأمين أشكال الدعم كافة ومن ضمنها الدعم العسكري، وتشكيل اتحاد للدفاع المشترك في غضون فترة لا تتجاوز العام». ويلتزم الجانب الروسي، بموجب هذه المعاهدة، بتطوير الجيش الأبخازي والتكفل بمصاريفه كافة، وتوفير الدعم التقني من أجل حماية حدود أبخازيا مع جورجيا، حيث ستحمي هذه الحدود وحدات روسية وأبخازية مشتركة. وتتضمن هذه المعاهدة أيضا تقديم روسيا الدعم المالي اللازم لأبخازيا، بالإضافة إلى تسهيل إجراءات حصول الأبخازيين على الجنسية الروسية، علماً أن وسائل إعلام روسية رددت في الفترة الأخيرة أن روسيا نشرت صواريخ دفاع جوي من طراز «اس- 300» في أبخازيا، ووسائل دفاع جوي أخرى في أوسيتيا الجنوبية.

إن توجس موسكو من احتمال ضم «حلف شمال الأطلسي» لجورجيا، في أي وقت من الأوقات، جعلها تُسرع من خطواتها في القوقاز لاستعادة مواقعها العسكرية والسياسية، التي فقدتها بانهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي. وفي هذا السياق، تبرز أيضا العلاقات الاستراتيجية ذات البعد التحالفي العسكري بين روسيا وأرمينيا، حيث تعزز موسكو قاعدتها العسكرية المُرابطة في هذه الدولة على الدوام. ويتناغم مع هذه التوجهات الروسية في منطقة القوقاز، كذلك، محاولات موسكو تقوية تعاونها العسكري في الفترة الأخيرة مع أذربيجان عبر توقيع صفقات لبيع الأسلحة الروسية لهذا البلد، بما فيها صواريخ الدفاع الجوي «إس ــ 300». إن السلوك الروسي في حالة جورجيا، أو بالأحرى في حالتي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، يتشابه، بدرجة لافتة، مع توجهات موسكو إزاء الأزمة الأوكرانية التي أدت في العام 2014 إلى ضم شبه جزيرة القرم على اعتبارها «مستحقة تاريخيا»، سواء في عهد الإمبراطورية أو في عهد الدولة السوفياتية، لروسيا. وهنا نلاحظ أن السلوك الأميركي الأطلسي في الساحة السوفياتية السابقة كان «عاملا محفزا» للسلوك الروسي سواء تجاه جورجيا أو تجاه أوكرانيا. ولكن لا ينبغي هنا تجاهل أن كلا من أبخازيا وشبه جزيرة القرم توفران منفذين حيويين لروسيا على البحر الأسود. ولا يتعين أيضا تجاهل نزعة روسيا التاريخية نحو «التمدُد» لمواجهة النزعة التاريخية نفسها لدى الغرب، في إطار معادلة الصراع الجيوسياسي وتوسيع مناطق النفوذ.