جريدة السفير: هل تُعلن روسيا إفلاسها؟


في الثامن عشر من آب الجاري، خرج مساعد الرئيس الروسي للشؤون الاقتصادية، أندريه بيلوؤسوف، بتصريحات تحذيرية بشأن حالة الاقتصاد الروسي، أشار فيها إلى أن «احتياطي روسيا الدولي من العملات الصعبة والذهب بات منخفضاً بشكل حرج، داعياً إلى رفع سعر الفائدة الأساسية من قبل البنك المركزي الروسي كمخرج من أزمة تراجع سعر صرف الروبل المتواصلة». هذه التصريحات أدّت إلى ارتباك غير قليل داخل روسيا والحديث عن احتمال إعلان «الإفلاس المالي» للبلاد، خاصة أن مساعد الرئيس الروسي أكد أنه لم يعد لدى البنك المركزي الروسي «فوائض من العملات الصعبة»، تكفي لإحداث توازن واستقرار سعر صرف العملة الوطنية.

ويكاد يُجمِع الخبراء الروس على أن العملة الوطنية الروسية مقابل الدولار واليورو ستواصل التراجع والهبوط مع تراجع أسعار النفط العالمية. وثمة توقعات من قبل مراقبين روس لا تستبعِد أن يتراجع سعر النفط العالمي في المستقبل إلى 40 دولاراً، وحتى إلى 20 دولاراً، مقابل البرميل الواحد. واللافت أن البنك المركزي الروسي لم يتدخل خلال الأسبوعين الأخيرين لإنقاذ الروبل، وهو ما يثير الكثير من التساؤلات لدى الخبراء الروس. ولكن عدم تدخل المركزي الروسي هذا، يؤكد، بدرجة أو بأخرى، ما أعلنه مساعد الرئيس الروسي للشؤون الاقتصادية من أن احتياطات روسيا الدولية من العملات الصعبة في حالة حرجة ولا تكفي لوقف تراجع سعر العملة الوطنية للبلاد. فقد كانت هذه الاحتياطات قبل شهر ونصف الشهر تقريباً، أي في شهر حزيران الماضي، نحو 500 مليار دولار. غير أنها تراجعت في منتصف شهر آب الجاري إلى 358 مليار دولار. ويتعلق السبب الرئيس لهذا التراجع بتدخل المركزي الروسي وإنفاق مليارات الدولارات في محاولة لوقف تدهور سعر صرف العملة الروسية «الروبل». وبشكل عام انخفض سعر صرف الروبل أمام الدولار واليورو منذ مطلع هذا العام بنحو 20 في المئة. علماً بأن الدولار كان يبلغ حوالي 33 روبلاً مطلع العام 2014، بينما يبلغ حالياً 66 روبلاً. وتُشير التوقعات إلى أنه لن يتوقف عند هذا الحد. فقد تراجعت العملة الروسية أمام العملة الأميركية بمرتين خلال السنة ونصف السنة الأخيرة.

إن حصة النفط والغاز في إجمالي الصادرات الروسية حالياً تبلغ نحو 74 في المئة. كما تمثل عوائد النفط والغاز حوالي 50 في المئة من إجمالي إيرادات ميزانية الدولة في روسيا. علماً بأن العوائد الروسية من صادرات النفط تزيد عن عوائد تصدير الغاز الطبيعي، أي أن تصدير النفط هو المصدر الرئيس للعملات الصعبة في روسيا. ومن هنا تظهر تبعية الاقتصاد الروسي لتصدير النفط أولاً، ثم لتصدير الغاز الطبيعي ثانياً. ولذلك، فإن أي تخفيض كبير في الأسعار العالمية للنفط يؤثر بالضرورة على النمو الاقتصادي والناتج المحلي الإجمالي وميزانية الدولة وميزان المدفوعات والبرامج الاجتماعية للحكومة، وكذلك على سعر صرف الروبل. وتؤكد مصادر روسية أن هبوط سعر النفط بمقدار دولار واحد يحرم الميزانية الروسية من نحو 2,5 مليار دولار.

لقد بات وضع التبعية هذا يمثل عبئاً كبيراً على الاقتصاد والمجتمع في روسيا، خاصة في ظل استمرار تراجع أسعار النفط العالمية وسعر صرف الروبل وهروب رؤوس الأموال بأرقام فلكية وتعثر عملية إحلال الواردات، التي أُعلن عنها بعد فرض العقوبات الغربية. فهذه التبعية أدّت إلى عرقلة عملية التصنيع وتحديث الاقتصاد وتنويعه. ولذلك يدعو العديد من الاقتصاديين الروس، في الوقت الراهن، إلى «إعادة تصنيع» البلاد من جديد وتنويع الاقتصاد الروسي، بحيث لا يعتمد أساساً على تصدير النفط والغاز وغيرهما من المواد الخام والأولية. فالبيانات الروسية الرسمية تُشير إلى أن حصة المواد الخام والأولية عامة في هيكل الصادرات الروسية الإجمالية تقترب من 90 في المئة، بينما حصة المعدات والآلات منخفضة للغاية وتبلغ حالياً أقل من 5 في المئة.

إن عوائد روسيا من صادرات النفط ومشتقاته والغاز الطبيعي في الفترة الممتدة بين الأعوام 2000 و2013، بحسب بعض التقديرات، بلغت نحو 3.2 تريليون دولار، بينما كانت في الفترة 1992 ـــ 1999 نحو 200 مليار دولار فقط. وهذا ساعد الرئيس بوتين في تثبيت نظامه السياسي وإحلال الاستقرار النسبي في روسيا عبر رفد ميزانية الدولة بجزء من تلك العوائد واستخدامها في رفع أجور ومرتبات العاملين في القطاع الحكومي، وضخ بعض الاستثمارات في الاقتصاد. ولكن هذا لم يُسفر عن تحديث الاقتصاد الروسي وتنويعه ووقف اعتماده على تصدير المواد الأولية واستيراد التكنولوجيات المتقدمة من الخارج. وفي هذا السياق، نرى بعض الاقتصاديين الروس ينظر إلى ما جرى في روسيا خلال الأعوام الخمسة عشر الأخيرة باعتبارها عملية «نمو من دون تنمية» تتسم بتفشي الفساد والتفاوت الكبير بين الأغنياء والفقراء. لقد حقق الاقتصاد الروسي في الفترة ما بين 2000 و2007 معدلات نمو مرتفعة بلغت في المتوسط السنوي نحو 7 في المئة. ولكن هذه المعدلات، على خلفية الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية، تراجعت في 2009 بـــ7.8 في المئة، أي أنها كانت سالبة. ثم ارتفع معدل النمو بعد ذلك ليصل في 2012 إلى 3,4 في المئة، إلا أن النمو في 2013، لم يزد معدله عن 1.3 في المئة.

واليوم عندما بات مؤكداً أن النمو الاقتصادي في روسيا بنهاية العام الجاري 2015 سيكون سالباً، بدأت التحذيرات من إعلان الإفلاس على غرار ما جرى في 1998، حيث توقفت روسيا عن تسديد ديونها الخارجية والداخلية. ويتعلق السؤال الحائر حالياً بما إذا كانت السلطات الروسية ستلجأ فعلاً إلى إعلان إفلاسها أم لا. فإعلان الإفلاس سيؤدي إلى تراجع أكبر في سعر صرف العملة الوطنية وسيُضُر بسمعة البلد كثيراً. ولذلك لا نرجح بأن هذا قد يحدث في المستقبل المنظور، مع أن البعض لا يستبعِد ظهور صعوبات في تسديد الشركات الروسية للديون المستحقة عليها للخارج، والتي تمثل القسم الأعظم من مديونية روسيا الخارجية.