الكاتب بتراي يدج
شاب شركسي يزخر بالقوة ، والحيوية ، والنشاط كان قد زارنا سنة ( 1974 ) ، ولم يكن طويل القامة ، وكبيرالجثة إلا أن من عينيه كان يشع بريق من الأمل ، والبشر ، والتفاؤل يعكس ما في نفسه من عزيمة ، وإرادة قوية لا يمكن أن تصاب بالضعف أو الفتور . أجل إنه الكاتب ، والباحث المشهور والمعروف السيد بتراي يدج الذي كنت قد تعرفت عليه في مكتب مديرالمعهد ، والذي أصبح اليوم من بين الباحثين النشطاء .
هاجر بتراي من جمهورية تركيا إلى ألمانيا سنة ( 1972 ) ، وتعلم اللغة الألمانية بصورة جيدة ، ظهرانتماءه القومي ، وحبه لشعبه الشركسي ، وبكل وضوح على معالم شخصيته منذ أن كان طالبا في المرحلة الثانوية ، حيث بدأ يُسخِّر اهتمامه ، ويوظف نشاطه في هذا الاتجاه ، وشرع يقرأ ، ويطلع على اللغة والثقافة ، والتراث الشركسي ، وكانت جدته من أبيه تروي تعطشه لمعرفة العادات والتقاليد ، والأخبار والحكايات الشركسية ، وكل ما اختزنته في ذاكرتها ، وحافظتها من معارف وخبرات طوال حياتها .
قام بتراي بجمع الكثير من التراث الشركسي ، وبصورة خاصة ما يتعلق بالنارتيين ، وأخبارهم ، والزي الشركسي ، والقيم والمثل الشركسية ، والأماكن ، والمواطن التي استقر ، وعاش فيها الشراكسة ، كما جمع الخرائط الجغرافية التي توضح ذلك ، وأقوال أعلام ، ومشاهير، وكبار شخصيات القوميات ، والشعوب الأخرى ، وآراهم عن الشراكسة ، وصفات ، وملامح الإنسان الشركسي ، أخلاقه ، وخصاله . قام الكاتب بزيارات إلى البلدان التي يعيش فيها الشراكسة من مثل سوريا ، والأردن ، والقفقاس ليمحص ويدقق في صحة ، وحقيقة ما سجله ، وقرأه ، وسمعه من شراكسة تركيا. أجرى بتراي دراسة مقارنة ما بين الحياة الإجتماعية للنارتيين في الماضي ، والحياة الإجتماعية للشعب الشركسي ، فوجد الكثيرمن أوجه التشابه في العادات والأخلاق ، والطباع ، وأعد أطروحته في هذا الموضوع باللغة الألمانية سنة ( 1982) ، ثم ترجمت إلى العربية عام ( 1988 ) وصدرت بعمان . يحيا الآن بجمهورية الأديغي ويعمل بمعهد الجمهورية للتراث والدراسات والعلوم الإنسانية ، وترجم أطروحته إلى اللغة الروسية ، وصدرت بمدينة مايكوب خلال هذا العام ( 1913 ) .
ولا يضع الباحث عمله ، وموضوع كتابه أمام الناس فحسب ، وانما يقوم أيضا بتحليل مكونات ، وشكل الأساطير النارتية ، ويوضح أن حياة الشراكسة والنارتيين ، والدرب الطويل الذي قطعوه هو طريق واحد . ويظهرالمؤلف أن لهم صورة وهيئة واحدة . وقف بتراي أولا عند المرحلة الزمنية التاريخية التي تألقت فيها الثقافة الشركسية وبكل وضوح وتكلم فيها عن الشعب ، واللغة الشركسية ، والعلاقة القائمة ما بين الشراكسة والروس ، والصلات ما بين الشراكسة والأتراك ، والهجرة الشركسية ، والسياسة التركية مع الشراكسة ، وتوطينهم في الأناضول ، وإسكانهم في البلقان ، وترحيلهم إلى سوريا ، والأردن ، وغيرها من الولايات التركية .
في الباب الثاني من كتابه تكلم عن المضافات الشركسية ، والرواة ، والمغنين الذين كانوا يترددون إليها ، وعن قضايا الناس وشؤونهم . وفي الجزء الثالث تناول بالدراسة والبحث نشأة النارتيين ، وجذورهم التاريخية ، أما في القسم الرابع فتحدث عن الجماعات النارتية ، وفئاتهم ، وقال : انهم كانوا يتكونون من تسع وعشرين فئة ، وقام بذكرهم ، وتحديدهم . في القسم الخامس ألقى الضوء على العادات والأعراف النارتية ، فذكرأن النارتيين كانوا يأخذون الطاعنين في السن ، والمشرفين على الموت إلى أعالي الجبال ، ويرمونهم من فوقها ، وأما في الجزء السادس فتكلم عن آلهتهم ، وطقوسهم الدينية ، وذكر لنا أسماء تسع عشرة آلهة .
وأطلعنا في الجزء السابع على ما كتبه الكتاب الشراكسة من أخبار ، وروايات عن النارتيين ، وعن العلاقات، والصلات الموجودة ما بين الشراكسة والنارتيين . وجاء في خاتمة كتابه والتي أوجز فيها مضمون كتابه ، ومحتواه أن الأستين كانوا أول من جمع ، وسجل أخبار النارتيين المتناثرة ، والمبعثرة بين الشعوب القفقاسية المتعددة ، ومن أجل ذلك اعتبروا أن النارتيين ، وأخبارهم ترجع في أصولها للشعب الأسيتيني . كتب بعد ذلك عن النارتيين الأديغة من بين شعوب القفقاس حيث جمع الأديب الكبير عسكرحدغاله أخبار النارتيين في مجلدات ضخمة ، واستطاع أن يصحح الفكرة الخاطئة، والتي كانت شائعة من قبل ، ومفادها أن الثقافة الإندو ـ جيرمان فيها الكثير من الملامح ، والمعالم الموجودة في أساطيرالنارتيين ، ونتيجة لذلك فلا يمكن القول أن الأساطيرالنارتيية تعود للشعب الشركسي ، وهذا يعني أن السؤال الكبير حول أصول ، وهوية النارتيين لم يُجب عليه ، ويبقى السؤال معلقا ، ودون إجابة مقـنعة حتى اليوم .
إن نظرت إلى الدرب الذي شقته الأساطيرالنارتية وإلى أوجه الشبه الشديدة الموجودة ما بين الثقافة الشركسية ، والأساطير النارتية لوجدت أنها تعطي آمالا كبيرة عن وجود صلات قوية ما بين المراحل التاريخية للنارتيين ، ومحتوى ، وشكل ثقافتهم ، ولعرفت أنهم حقا من الشعوب أو القبائل الشركسية التي كانت تعيش في القفقاس ، أو أنهم قد اختلطوا ، وأقاموا مع الشعب الأسيتيني المجاورلهم ، ولكنك لا تستطيع أن تقلب الصورة فتقول : أنهم قد خرجوا من أحد الشعوب المجاورة للشراكسة ( الأديغة ) ، ثم أقاموا مع الشراكسة ، وعاشوا معهم . لذلك فإن الأساطيرالنارتية هي في حقيقتها أساطير شركسية، وتعود هويتها إليهم .
وأخيرا أحب أن أختتم مقالتي بهذه الكلمات:عندما قرأت كتاب بتراي يدج تغيرت نظرتي ، وتبدلت وجهة نظري ، فهو ليس مجرد جامع للأخبار ، والمعلومات ، والروايات ، وإنما هو باحث حقيقي ، وكبير ، وخيرما يؤكد ذلك كتابه الذي نتحدث عنه ، وما يجدر قوله أن طريقة تناوله لأبحاثه ، وأسلوب معالجته لها فيها الكثيرمن السمات والخصائص الأوروبية ، وأعني بذلك أنك تحس حيث تقرأ كتابه أنه يستطرد كثيرا ، ويخرج عن الموضوع لكنك تراه في النهاية قد جمع كل ذلك في نسيج محكم ، ومتماسك ، وقدم نتائج ، وأفكارا في غاية الأهمية والعمق ، وهذا ما يزيد من عظم إعجابي ، وتقديري له .
ــ كاتب المقالة الدكتور في العلوم اللغوية السيد : نوح غش .
ــ فـــي الصورة : الباحـــث بتــراي يـــــدج .
ــ الترجمة إلى العربية : محمد ماهر إسلام .
اديغة ماق - صوت الشراكسة