الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يصافح نظيره الايراني حسن روحاني، خلال في الترحيب خلال قمة للزعماء الإقليميين لبحر قزوين في جنوب مدينة استراخان الروسية في 29 سبتمبر/أيلول، 2014. اليكسي نيكولسكي / ريا نوفوستي / الكرملين / رويترز
الكاتب أدريان كاراتنيكي
ترجمة: عادل بشقوي
عزز الرئيس فلاديمير بوتين على مدى السنوات القليلة الماضية، السلطة في روسيا من خلال التعبئة الأيديولوجية القومية الحازمة، وإيجاد واقع بديل من خلال هيمنة شاملة لوسائل الإعلام والمضي في حرب هجينة في أوكرانيا.
أيضاً لزعيم يتحدث بوقاحة، وأسلوبه المفضل في العمل هو العمل السري — نمط تشكل خلال السنوات التي قضاها في خدمات أمن الدولة (KGB) في عهد الاتحاد السوفييتي.
ومع ذلك، فالكتمان هو وضع إشكالي لسلوك نظامه الّذي تحركه الدعاية. والسرية ليست هي أفضل وسيلة لتلميع صورة زعيم قوي لا يرحم — رجل صارم، وعلى استعداد لاستخدام القوة للمضي قدما لزيادة النفوذ الروسي في العالم. وببساطة فإن مرافقة عصابات الدراجات النارية، وركوبه الخيل وهو عاري الصدر ومشاركته في عروض الجودو لن يوقفها.
وللتعامل مع هذا التناقض، طوّر بوتين مجموعة واضحة للغاية من الإشارات المستخدمة في التواصل مع جمهور روسيا ونخبها، وكذلك المجتمع الدولي. كان رمز بوتين هذا معروضاً في موسكو في عدة أساليب بارزة في الاسابيع الاخيرة.
في يوم 25 مارس/آذار، ذكرت صحيفة نوفايا غازيتا (Novaya Gazeta)ا، وهي واحدة من وسائل الإعلام القليلة المستقلة في روسيا، أن الرئيس قد أصدر مرسوما لتكريم ثلاث وحدات عسكرية روسية “لبطولتها في القتال”. وجاءت هذه الوحدات الثلاث من أوسورييسك (Ussuriysk)، الواقعة في شمال فلاديفوستوك (Vladivostok) في الشرق الروسي. ومن أولا أودي (Ula Ude)، في منغوليا الروسية (Russian Mongolia)؛ ومن منطقة موسكو.
لم يتم الاعتراف رسميا بأن أيٍ من الوحدات التي كُرّمت قد انتشرت في منطقة قتال في السنوات الأخيرة. وكان المرسوم إشارة ضمنية من الامتنان للجنود الذين من المرجح أن يكونوا منتشرين في عمل سري في شرق أوكرانيا.
في يوم 15 مارس/آذار، أرسل بوتين رسالة مشفرة قويّة أخرى إلى الروس والعالم عندما ظهر في فيلم وثائقي عن الدولة الروسية على القناة التلفزيونية الروسية الأولى باعتباره شخصية مركزية من وراء الكواليس، بعنوان “الطريق إلى الوطن”. ويحكي الفيلم قصة حقيقية عن إحتلال وضم شبه جزيرة القرم في شهري فبراير/شباط ومارس/آذار من عام 2014.
في الفيلم الوثائقي، يوضّح بوتين أنه قرر أن ينتزع شبه جزيرة القرم من أوكرانيا دون أي تشاور مع قادة القرم ومن دون أي مناقشة مع المشرعين في روسيا. إن ذلك يبعث على السخرية من إدّعاء بوتين أن المواطنين من شبه جزيرة القرم طالبوا بالوحدة مع روسيا لأنهم كانوا يخشون من حكومة أوكرانية “قومية” جاءت إلى السلطة بعد إسقاط الرئيس فيكتور يانوكوفيتش (Viktor Yanukovych).
وينبغي أن نتذكر أن بوتين في البداية نفى بشدة أن قواته المسلحة كانت متورطة على الإطلاق في العمليات العسكرية التي رافقت الإحتلال الروسي.
على الرغم من أن بوتين نأى بنفسه في البداية عن اغتيال زعيم المعارضة بوريس نيمتسوف (Boris Nemtsov)، إلا أن له إشارات علنيّة لمّحت في وقت لاحق إلى واقع مختلف تماماً. في يوم 9 مارس/آذار، بعد يوم واحد من إعتقال مجموعة من الشيشان لقتلهم نيمتسوف، وبعد أن أشاد زعيم الشيشان الشّرس رمضان قادروف بالقاتل زاور داديف (Zaur Dadaev) الذي اعترف تلقائياً ووصفه بأنّه “وطنى روسي”، قام بوتين بتكريم قادروف بتقليده “وسام الشرف” وهو وسام رفيع بالدولة.
في 10 مارس/آذار، أرسلت وسائل اعلام روسية إشارة إضافية تشير إلى ما حدث حقا في قضية نيمتسوف. لقد تم الكشف عن أن دادايف قد استقال من وظيفته كجندي في وزارة الداخلية الروسية بعد يوم واحد من قيامه مع زملائه في تسديد أربعة رصاصات إلى نيمتسوف. وبعبارة أخرى، كان قاتل نيمتسوف على جدول الرواتب الحكومية الروسية حين خطط ونفذ الإغتيال.
إن النهج المتبع في استقالة الناس من مهامهم العسكرية للانخراط في أعمال سرية — تم نفيه رسميا من قبل الكرملين — هو النهج الذي يتم من خلاله إرسال الجنود الروس، بما في ذلك المقاتلين الشيشان، الى الجبهة في شرق أوكرانيا. ويشير الخبراء الروس إلى أن مثل هذه الوثائق هي شكلية يحتفظ بها إذا احتجز المقاتلين من قبل القوات الأوكرانية، للحفاظ على وهم عدم التورّط الروسي في الصراع.
وفي ديسمبر/كانون الاول، استضاف قادروف، وهو مرزبان (حاكم) الكرملين في الشيشان، اجتماعاً حاشداً حضره 15،000 من قواته الخاصة في مدينة غروزني، حيث أعلن الولاء الشخصي لبوتين. وأشار قادروف إلى استعداد مقاتليه لأداء المهام التي “لا يمكن حلها إلا بواسطة متطوعين” والتي لا يمكن التعامل معها رسميا من قبل الجيش والأجهزة الأمنية العادية. وأكّد: “إعتبرنا مفرزة متطوعين خاصة للقائد الأعلى، وعلى استعداد للدفاع عن روسيا”.
و(رجال قادروف)، كما هو معروف عنهم، يثبتون ولائهم كشيء أقرب إلى حرس بوتين الإمبراطوري عبر القتال في أوكرانيا بأعداد كبيرة. الآن واحداً من زملائهم قضى على أبرز ناقد لبوتين.
وتكريم رئاسي ثانٍ في 9 مارس/آذار أرسل إشارة أخرى، وهذه المرة إلى المجتمع الدولي. لقد منحت جائزة “خدمة الوطن الأم” إلى أندري لوغوفوي (Andrey Lugovoy) وهو عميل سابق في الاستخبارات الروسية ومطلوب في بريطانيا لتورطه في تسميم ألكسندر ليتفينينكو (Aleksandr Litvinenko) بالبلوتونيوم.
ليتفينينكو، ضابط جهاز الأمن السابق الذي حقق ووثّق تواطؤ الكرملين في تفجيرات “إرهابية” مزعومة، تم اغتياله في لندن في عام 2006. في حين أن الكرملين نفى التواطؤ، فقد منع لوغوفوي أيضا من مواجهة نظام العدالة البريطاني، رغم وجود أدلة بالغة الأهمية من التلوث الإشعاعي في غرفة فندق شغلها قبل عملية الاغتيال. إن الجائزة الآن تشير إلى التقدير الذي يحظى به العميل.
كل هذه هي دروس موضوعية في طريقة عمل بوتين. والرّسالة الواقعية هي كالتالي: أنا أعمل سرا مع أجهزتي الأمنية من أجل إعلاء شأن المقدرة الروسية. في بعض الأحيان سوف أحتاج إلى أن أخادع من أجل تحقيق إعلاء الأهداف الروسية. في النهاية، سيتم الكشف عن كل شيء إذا استمعت بعناية إلى ما أقوله لكم.
هذه ليست حالة ازدواجية في الحديث. إنه شيء جديد تماماً. بل هو حالة من الحديث المجتزأ: تمرير معلومات بالغة الأهمية مع مرور الوقت في الأسلوب الذي يخادع في البداية أو يطلق تلميحات مبهمة، لكن في وقت لاحق يبدو جلياً أنه منذ البدء كان ذلك هو القصد الكامل من إجراءات بوتين.
هذا الكلام المجتزأ، وهذا الإيحاء بوجود يد روسية (خُفِّف بإنكارٍ يتّسِم بالفتور)، تمليه كل من احتياجات آلة الدعاية الداخلية لبوتين وحاجته إلى خداع القادة الغربيين. بل هو أيضا علامة على نفور بوتين من المخاطرة وتخوفه من الإخفاقات أو الهزيمة.
ومجرد التلميح في الضلوع حتى اكتمال العملية بنجاح، بوتين لا يترك فقط الباب مفتوحا للتراجع ولكن أيضا يسمح له لتجنب اللوم في حالة الفشل. من ناحية أخرى، فإن ذلك يعطيه خيارات للتراجع في حال مواجهة صعوبة.
ولتعدد الأسباب، سيبقى رمز بوتين معنا طالما هو في السلطة. لقد حان الوقت بالنسبة لنا لإستيعاب معناها لنكون متنبّهين لرسالتها المخادعة.
أدريان كاراتنيكي (Adrian Karatnycky) هو زميل رفيع المستوى في مجلس الأطلسي (Atlantic Council) والمدير المشارك في موضوع أوكرانيا في مبادرة أوروبا (Europe initiative).
المصدر: