تقف روسيا بكل ثقلها للحيلولة دون انضمام جورجيا إلى حلف الناتو، لكن مقومات هذا الانضمام قوية لا سيما جيشها المدرب جيدا، والذي شارك في حرب أفغانستان، لذلك على جورجيا أن تسعى إلى إقامة علاقات ثنائية أقوى خارج البنية الأوروبية الأطلسية كي تدعّم موقفها مع الناتو.
دشن حلف شمالي الأطلسي (الناتو) بضجة كبيرة مركز التدريب والتقييم المشترك الجديد قرب تبليسي، عاصمة جورجيا، في أواخر شهر أغسطس. صحيح أن هذا المركز يشكل إضافة طفيفة إلى مجموعة التحالف الواسعة من البنى التحتية الأوروبية، إلا أن هذه القاعدة الجديدة تمتاز بأنها قائمة في دولة لا تنتمي إلى الناتو، مما يجعلها رمزاً مهماً بالنسبة إلى جورجيا، التي سعت بدأب للانضمام إلى هذا الحلف منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، ولا شك أن هذا المركز الجديد يشكل خبراً جيداً بالنسبة إلى تبليسي، لكنه يبقى في أفضل الأحوال جائزة ترضية، ويعود ذلك إلى أن قادة الخلف، رغم الوعد بقبول جورجيا عام 2008، أوضحوا أنهم لا يتوقعون انضمامها قريباً، وتكمن المشكلة في أن البلد عجز عن الالتزام بمعايير الحلف العالية، وبدلاً من ذلك، رفض الناتو التفصيل بوضوح ما تستطيع جورجيا تحقيقه للفوز بالعضوية، إن كان هذا ممكناً.
يعكس تردد الناتو وضعاً يصعب تقبله نظراً إلى ما تعرب عنه تبليسي من حماسة حيال الانضمام إلى الحلف، فلم يخدم المقاتلون الجورجيون بأعداد كبيرة في أفغانستان فحسب (وما زالوا يقومون بذلك)، بل تشكل تبليسي أيضاً مساهماً غير عضو في قوات الرد السريع الجديدة التابعة للناتو، فالجيش الجورجي المنتشر إلى جانب الجنود الأجانب في كوسوفو، والعراق، وجمهورية إفريقيا الوسطى يتمتع بتصنيف عالٍ، مختَبر في المعارك، ويعد بحسب التقارير أكثر من 10 آلاف جندي وفق معايير الناتو. نتيجة لذلك، يُعتبر أفضل من جيوش عدد كبير من الدول الأعضاء، بالإضافة إلى ذلك، تزداد جورجيا ديمقراطية، مع أنها لا تزال عرضة لنوبات من القتال السياسي الداخلي. كذلك توازن تبليسي طموحاتها الأوروبية-الأطلسية الراسخة بسياسة تعاون عملي مع روسيا في مجالات التبادل التجاري والثقافي، ساعية في الوقت عينه إلى تفادي نوع العداوة الذي دفع بالبلدين إلى الحرب عام 2008.
رغم كل هذه الأوجه الإيجابية (أو ربما بسببها، ما يخفي مكراً كبيراً)، رفض الناتو تحديد مجموعة معايير واضحة على جورجيا بلوغها بغية الانضمام إلى الحلف، مما ترك طلبها في حالة من الغموض، صحيح أن معارضي انضمام جورجيا يغلفون شكوكهم بمجموعة من التفاصيل التقنية (ويرفضون تحديد ماهية هذه المعايير)، بيد أن معارضتهم تعود في المقام الأول إلى الخوف من استفزاز غضب روسيا أو إثارة الجدال حول المادة الخامسة من معاهدة تأسيس الناتو، التي تفرض على الدول الأعضاء مساعدة جورجيا في حال تعرضت لاعتداء.
ونظراً إلى صراعات جورجيا الكثيرة مع الانفصاليين الذين تدعمهم روسيا في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، تشعر بعض الدول الأعضاء أن ضم جورجيا إلى الحلف سيزيد من احتمال حدوث مواجهة بين روسيا والناتو، كذلك يدّعي المشككون أن من المستحيل الدفاع عن جورجيا عسكرياً في وجه أي اعتداء روسي، ورغم ذلك تنهار هذه التأكيدات بسرعة عند تأملها بدقة.
أبعدت هزيمة جورجيا في حربها ضد روسيا عام 2008 الأنظار عما أحسن جيشها القيام به، فرغم تفوق روسيا في الجو والبر، عانى الطرفان العدد نفسه من الضحايا تقريباً، كذلك نجحت وحدة من القوات الخاصة الجورجية في وقف تقدم قوة روسية أكبر بكثير، مما سمح لجنود آخرين بالانسحاب والاستعداد للدفاع عن تبليسي، بالإضافة إلى ذلك، نجحت الدفاعات الجوية الجورجية، رغم عجزها عن مضاهاة القوة الجوية الروسية، في تحقيق عدد من الضربات ضد الغارات الجوية الروسية، بما فيها إسقاط رامية قنابل من نوع توبوليف.
حدث كل ذلك بعد أن أُخذ الجيش الجورجي، الذي ما كان مستعداً، على حين غرة، لكن اليوم، بعد مرور سبع سنوات، يصف المسؤولون الغربيون عموماً الجيش الجورجي بأنه أكثر قدرة واستعداداً للتصدي لانتهاكات روسيا، ففي شهر يونيو، شهد الجيش الجورجي تحديثاً دفاعياً بالغ الأهمية بشرائه أنظمة دفاع جوية فرنسية متقدمة، وخلال زيارة أخيرة إلى واشنطن، وصفت وزيرة الدفاع الجورجية تينا خيداشيلي عملية الشراء هذه "كخطوة تبدل اللعبة بأكملها".
تعكس المخاوف من القبول بانضمام جورجيا عموماً سوء فهم نقطة الدفاع الجماعي، فما كان الهدف من الناتو أن يكون حصناً للأقوياء ليُترك الضعيف خارجه يُلتهم، وبدلاً من ذلك شكل الحلف جهداً جماعياً واعياً هدفه حماية أوروبا من الاعتداءات والدفاع عن نظام ليبرالي يرتكز على قواعد واضحة. تُعتبر الناحية التقنية وحدها كافية لفوز جورجيا بعضوية الناتو، لكن السياسات الأوروبية التي تخشى روسيا وتزداد وطنية، قوضت طلب تبليسي، ويحول التباطؤ الغربي مَن يصرحون بالحقيقة عن تأثير روسيا في وضع جورجيا إلى دجالين لطالما ادعوا أن الناتو وسيلة لتحقيق الأحلام.
ولكن إن لم ينجز الناتو المتوقع منه في عام 2016، فستحتاج جورجيا إلى خطة بديلة، صحيح أن الحرب الروسية في أوكرانيا تسدد ضربات قوية للنظام الأوروبي القائم على قواعد محددة، إلا أنها تمنح أيضاً جورجيا هامش تحرك. فلا تنتشر روسيا في كل مكان، ولا شك أن الضغط الذي تتعرض له لتنشر نفوذها في أوكرانيا، وإن لم تنفذ غزواً شاملاً، يؤثر سلباً، حسبما تشير التقارير، في جيشها، مما يحد من احتمال تعرض جورجيا لاعتداء واسع. نتيجة لذلك تحظى تبليسي بفرصة تتيح لها ولشركائها الغربيين تعزيز دفاعات جورجيا، ولتحقيق هذه الغاية على تبليسي توسيع قدراتها وعدد قواتها الناشطة والاحتياطية، وخصوصاً هذه الأخيرة.
على جورجيا أيضاً، كي تدعّم موقعها، أن تسعى إلى إقامة علاقات ثنائية أقوى خارج البنية الأوروبية-الأطلسية. وتُعتبر جهودها الرامية إلى بناء روابط أكثر متانة وديمومة مع الولايات المتحدة بشكل متوازٍ مع الناتو نقطة انطلاق جيدة، كذلك يشكل منح الولايات المتحدة تبليسي مكانة "حليف بارز لا ينتمي إلى الناتو" خطوة بالغة الأهمية لن تكلفها بالتأكيد أي ثمن يُذكر، لأن هذه الخطوة ستكون رمزية عموماً ولا تفرض على البلدين أي التزامات ترد في المعاهدة، إلا أنها قد تحفز الشعب الجورجي القلق.
على تبليسي أيضاً أن تبني الروابط مع الصين، التي أعربت أخيراً عن اهتمام كبير بجورجيا بصفتها جسراً مهماً في جهودها الرامية إلى بناء ممر طاقة و"طريق حرير جديد" تجاري يمتدان في مختلف أرجاء أوراسيا، ومع ما تعانيه روسيا من عقوبات دولية وتدهور أسعار النفط، يزداد اعتماد موسكو على حسن نوايا بكين؛ لذلك يجب أن تستغل جورجيا مكانة الصين البارزة كوسيلة أخرى للحد من ميل روسيا إلى المغامرة.
ولكن وفق كل المعايير المنطقية، تُعتبر جورجيا مستعدة ويجب أن تحظى بعضوية الناتو، ولكن في الوقت الراهن، على تبليسي أن تبني زخمها الخاص وتتخذ خطوات محلية ودبلوماسية كي تعزز موقفها، فلن يساهم هذا في تعزيز أمن السيادة الجورجية فحسب، بل سيجعل جورجيا أيضاً أكثر جاذبية كمرشح للناتو، ولا يرتكز مصير طلب جورجيا الانضمام إلى الناتو على الأرجح على الجاذبية أو المناورات السياسية، ولكن بالنظر إلى تردد الغرب الحالي، يجب أن يحرص الجورجيون على الاستعداد للدفاع عن أنفسهم بمساعدة الحلف أو بدونها.
كتب المقال: مايكل سيسيري