عمار منلا حسن
عندما تفرَّغ الله لتوزيع الأرض على الأقوام والشعوب المختلفة، تخلّف الشركس لانشغالهم بالرقص والغناء وتأليف الموسيقى، ولما فرغوا من أمرهم توجهوا لله ليروا أي بقعةٍ من الأرض قد خُصِّصت لهم، لكن تخلفهم عن التوزيع انتهى ببقائهم بلا أرض، الخبر الذي تلقوه بحزنٍ وبكاءٍ شديدين. أشفق الرب عليهم، ولمَّا لم يجد ما تبقى من بقاع الأرض لهم اضطر لاقتطاع جزءٍ من الجنة لإخماد حزنهم به.
تخبرنا الأسطورة الشركسية السابقة أمرين أساسيين عن الشركس: الأول أنهم قومٌ مهووسون بالموسيقى والرقص والغناء، والثاني أنهم قومٌ قدامى بما فيه الكفاية وذوي خيال واسع أيضاً ليأتوا بأسطورة لكل شيءٍ قد تسقط عليه عينٌ أو تسمع به أذن. لكن الأساطير، كما يقول علماء الميثولوجيا، دائماً ما تكون ذات منبت حقيقي أو مصدر إلهام من الواقع. لن يواجه أيٌ منا صعوبة في التعرف على منبع الأسطورة السابقة إذا ما أتيح له التجول في أرض القوقاز ذات الطبيعة البكر، والتي يتعثر تفسير جمالها إلا بأساطير مماثلة.
وفق بحثي الشخصي، الذي أعترف أنه لا يزال محدوداً جداً لغياب ما يكفي من المصادر الأكاديمية المتاحة، لم أجد أسطورةً عامة عن أصل الموسيقى الشركسية بمجملها كما الحال بالنسبة لأسطورة أصل أرض الوطن الشركسي، وإن كان أقرب ما عثرت عليه هو مثلٌ ردده شركسي في وثائقي قصير عن الموسيقى الشركسية: “الصوت هو أصل الإنسان في العالم، هو أصل الروح.” بالمقابل، ورغم غياب الأسطورة العامة الشاملة، إلا أن دروب الموسيقى الشركسية تقاطعت مع الأسطورة لعددٍ كبيرٍ من المرَّات بشكلٍ يستحق الملاحظة والدراسة.
يمكن نسب الموسيقى الشركسية في بداياتها الأولى لأصلين مرتبطين: أحدهما الأساطير الوثنية المرتبطة بشكل أساسي بالطبيعة آن ذاك، والثاني الرقص الشعائري المنبثق عن هذه الأساطير. إذ أن الرقصات تعقد حول الأشجار المقدسة أو أماكن ضرب الصاعقة أو ما شابهها من مواقع أو أشياء مبجلة، وعادةً ما تشكِّل الرقصات حلقةً حول المركز المبجل، ومن هذا المشهد ظهرت الأناشيد والأهازيج الشعائرية الأولى التي يمكن اعتبارها صلوات وثنية من نوعٍ ما لتواكب هذه الرقصات وتقدِّس الأحداث المبجلة كاندلاع البرق أو تقديم الأضاحي، حتى بات هناك، بعد فترةٍ من الزمن، أغانٍ ورقصات توأمية مخصصة لكل واقعة مقدسة على حدة، مثل إحدى رقصات وج الجماعية المخصصة للبرق، والتي تؤدى بالتناغم مع أغنية البرق.
بعد مرحلة العبادة الوثنية الطبيعية، بدأت الآلهة الشركسية بالظهور، وكان لكلٌّ منها بمهام أو صفات رئيسية، مع وجود كبير الآلهة1 الذي يعده بعض الميثولوجيين النظير الشركسي للآلهة العظمى في الحضارات القديمة كزيوس اليوناني وجوبيتر الروماني. في هذه المرحلة لم تتأثر الموسيقى فقط من حيث شمولها أدعية وصلوات جديدة لهذه الآلهة، بل كان أحد الآلهة مرتبطاً بالموسيقى بشكلٍ مباشر، وهو آميش2، رب الماشية. اشتهر آميش بالغناء وتأليف الأغاني والعزف على نايه السحري، وأحياناً البوق، لبثّ الخصوبة في الأراض الجرداء التي يمر بها، أو لتهدئة خراف قطيعه أو لتخديرهم وحثهم على النوم. لحسن الحظ، وبفضل عزلة المجتمع الشركسي لفترة طويلة من التاريخ وحفاظه حتى اليوم على إحساس هائل من الفخر القومي، فقد نجت بعض الأغاني المنسوبة لآميش بالتوارث، كمعزوفتي لحن الراعي وتهويدة رعوية على الناي.
ربما كان لأسطورة الإله أميش الذي يعرف بالراعي الأول علاقة بنظيرتها الخاصة بمنشأ الناي الشركسي، والمعروف بالقاميل3، حيث تقول الأسطورة إن راعياً كان يقود قطيعه وسط السهول والغابات، عندما سمع صوت عزفٍ لم يستطع نسبه لأحد، وعندما أصر على تتبع الصوت عثر على بعضٍ من نبات القاميل4 وقد حفرت به الديدان بعض الثقوب حتى بات يصدر صوتاً موسيقياً عند مرور الهواء عبره، فقام الراعي بتعديل وتحسين عود القصب هذا حتى حصل على صوت أفضل. وبإمكاننا هنا رؤية العلاقة بين الراعي وآلة الناي التي عرف آميش بالعزف عليها.
آلة الـشيكابشينا5، آلة وترية طولية تضم وترين فقط من شعر ذيل الحصان، لها أيضاً أسطورتها المرتبطة بالطبيعة، إذ تنسب إلي الـشيكابشينا قداسةٌ مستمدة من قداسة شجرة الجوز التي تُصنع الآلة من خشبها، وكانت القداسة تنتقل بالمثل إلى العازف الذي يعتقد أنه كان إما رجل دين أو ساحراً حتى يعزف عليها.
غنائياً، ظهرت أغاني وأناشيد العمل، خصوصاً بين المزارعين والرعاة. وبالعودة لظهور الآلهة الشركسية فقد ظهرت المزيد من الأغاني المتعلقة بالصحَّة والوقاية من المرض، والتي غالباً ما تتوجَّه بلهجة متضرعة للإله سوزرش6، حيث كان معارف المريض يجتمعون حول سريره ويرددون أهازيج وتضرعات ترجو شفاءه، كما كان هناك أغانٍ أشد صخباً أو تسليةً للتخفيف عن المريض ومنعه من الاستسلام للنوم الذي قد لا يستيقظ منه.
عند حدوث وفاة أو فاجعة مؤلمة، هناك أغان شعائرية قديمة كأغنية تُغنى فقط عند استخراج جثة غريقٍ ما من المياه. ظهر أيضاً في هذا المجال نمط غناء جماعي أحياناً وغير مصحوب بآلات موسيقية7 وغالباً ما لا يؤدى مع رقص. بات يعرف هذا النمط بأغاني الغيبزة8 وهي المرثيات؛ ومن المثير للاهتمام أن بنية المرثية قد بدأت بالابتعاد من كافة النواحي عن الأصل الشعائري لتقدم بنيةً أكثر استقلالاً للأغنية الشركسية. مثال على هذا الطراز هذه المأساة المأخوذة من إحدى ملاحم النارت.
ظهر أيضاً توجه جديد في الأغاني يقوم على وصف ملاحم الآلهة والرموز الميثولوجية بدلاً من الدعاء والابتهال، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بأبطال ملاحم النارت الأكثر شهرةً وبقاءً حتى اليوم، ومن أبطالها نارت سورسوقو ووالدته ساتاناي9، وهكذا ولد نوع من الأغاني تعرف بأغاني النارت وتختص برواية ملاحم ومغامرات وأساطير رموز هذه الملحمة مثل لحن نارت سورسوقو.
رغم تطور الأغاني بشكل مستقل نسبياً عن الطقوس الشعائرية والرقصات، إلا أن الموسيقى الشركسية ظلَّت تحمل روحاً دينية حتى وقت قريب جداً. مؤخراً، بدأت تظهر أغانٍ ومعزوفات ورقصات منسلخة تماماً عن أي معانِ أو دلالات دينية، ولا تهدف سوى للتسلية والترفيه والاحتفال مثل رقصات الوج التي كانت رقصة غنائية دينية جماعية تؤدى في شكل دائرة حول المقدس، وقد تحولت اليوم لرقصة خاصة بالأزواج دون أن تحمل أي دلالة دينية تذكر.
استخدمت الموسيقى الشركسية لتوثيق وتأريخ الحروب القاسية مع الإمبراطورية الروسية منذ القرن الثامن عشر، والتي انتهت بمجازر وترحيل قسري جماعي للشركس إلى منطقة شرق المتوسط وخصوصاً تركيا والشام. أطلق الباحث أمجد جاموخ، على هذه الموسيقى اسم أغاني المقاومة، ولاحقاً كان هناك مرثيات تطرقت للمجازر والتهجير وما بعد التهجير على نحوٍ خاص.
خلال فترة انتشار المسيحية في القفقاس، ظهر نوع من الإنشاد الكنسي المحلي المتأثر بالهوية الموسيقية الشركسية مثل هذه الترنيمة، لكن الموضوع، فيما يبدو لي، لم يتطور لدرجة تسمح له بتشكيل ظاهرة موسيقية مستقلة. جرى مؤخراً، خلال حركات النهضة التي شهدتها الموسيقى الشركسية في القرن الماضي، تأليف مقطوعات كلاسيكية من سيمفونيات وأوبرات تحاول الحفاظ على الروح الشركسية الموسيقية، وبالمثل تم تصنيف عدة أعمال كلاسيكية، شهيرة ومغمورة، على أنها متأثرة بزيارة مؤلفيها للقوقاز واطلاعهم على الموسيقى المحلية، لكن هذا أيضاً لم ينمو، على ما يبدو، ليشكل ظاهرة مستقلة. لا تزال الأغنية الشركسية التقليدية مسيطرةً حتى اليوم رغم ما دخل عليها من تغيرات، كالاستخدام الكثيف للأوكرديون الشركسي10، والذي دخل على الموسيقى الشركسية بوقت حديث نسبياً وكثر استخدامه حتى باتت بعض الأدوات الموسيقية الشركسية التقليدية عرضةً للانقراض لتراجع صناعتها اليدوية.
السؤال
هل تركت الأسطورة الشركسية أثرها الحاسم على هذه الموسيقى الشعبية؟ سيكون من الجرأة والتهور والإهمال11 أن يتطرق شخص محدود المعرفة مثلي لإرضاء هذا السؤال بجواب حاسم. لكن إن جاز لي الحديث كمستمع هاوٍ لا كخبير، فيمكنني أن أقترح. يمكنني أن أقترح بخجل أنه لو استثنينا القرنين الأخيرين من عمر الموسيقى الشركسية الطويل، لو استثنينا هذه الحقبة التجديدية والتي استقبلت بكرم وفود آلة الأوكورديون على المشهد الموسيقي، واستمعنا للموسيقى الشركسية قبل ذلك، لميزنا بوضوح ضربات الإيقاع العنيفة التي تنظم معظم الأغاني المنسلخة عن رقصات شعائرية، رقصات عادةً ما كانت تواكب حركات الخيل أو أحياناً ترويض الخيل البري الجامح، كذلك سنسمع القصائد التي تقوم على ترتيلها هذه الأغاني قصصاً عن ملاحم وأساطير لا تختلف جداً بأسلوبها السردي عن أسلوب الدراما اليونانية المبكرة التي انسلخت بشكلٍ مماثل عن شعر غنائي قبل أن تتطور بقالبها المسرحي الأكثر شهرةً اليوم. أصوات الأدوات الموسيقية الشركسية التقليدية تشارك أيضاً في إثبات الحجة القائلة بتأثر الهوية الموسيقية الشركسية بالأسطورة التي راقصتها معظم فترة نموها وتطورها، تأثراً يبلغ، بالنسبة لي، حد أنني أستطيع أن أقول إن سماع الموسيقى الشركسية هو أقرب ما يكون لأن تسمع صوت الأسطورة.
رابط المقال الأصلي: هنا