بسام حاج حسن
تغير العالم في الخمسين السنة الماضية بشكل يصعب حتى على أصحاب الاختاص مجرد متابعتها، ناهيك عن مجاراتها أو خلق ظروف التأقلم الموضوعية في مجالات التكنولوجيا والثقافة والسياسة.
ولا شك أن معظم التغيير كان في خدمة المدنية والانسان وعلى سبيل المثال فإن البعض ممن تجاوزا الستين لم تكن يعرف الهاتف في حين يحمل طلاب في المرحلة الابتدائية من أحفادهم الهواتف المحملوة .. بشكل مشابة يمكن الحديث عن التطور في مجال الطب والصحة العامة.
ولا شك أن معظم التغيير كان في خدمة المدنية والانسان وعلى سبيل المثال فإن البعض ممن تجاوزا الستين لم تكن يعرف الهاتف في حين يحمل طلاب في المرحلة الابتدائية من أحفادهم الهواتف المحملوة .. بشكل مشابة يمكن الحديث عن التطور في مجال الطب والصحة العامة.
من الأعراض الجانبة السيئة للعولمة والتي هي نتاج طبيعي لتطور الاتصالات بالشكل المذهل الذي نراه إنتشار اللغة الانكليزية على حساب اللغات الأم لأمم ووكيانات وطنية كبيرة عددا وعدة، ففي دول كبرى مثل روسيا والمانيا مثلا لم تكن اللغة الانكليزية قبل 50 عاما يمكن أن تساعد من يتكلمها من الغرباء الذين يزورونها، نلاحظ اليوم أن الانكليزية منشرة بشكل يشكل خطرا على اللغات القومية. أما حين يكون الأمر متعلقا بشعوب صغيرة أو منتمية لما يسمى بالدول النامية فإن الضرر يكون غالبا أكثر وضوحا.
حين يكون الحديث عن اللغة الأديغية لابد من التركيز على أنها على قائمة الأمم المتحدة لللغات المهددة بالانقراض ويعرف كل من له علاقة بها حقيقة الوضع المأساوي الذي وصلت إليه في كل مكان تواجد فيه الأديغة. فهي تعاني من مشاكل كثيرة وأخطار محدقة.
الأحرف السيريلية التي تستخدم حتى الآن في اللغة الأديغية سواء في الوطن أو المهاجر هي أحد مشاكل هذه اللغة ولكنها بالتأكيد ليس من أهم مشاكلها، فمع أنها قد فرضت على اللغة في الوطن وبالتالي من عدو سابق احتل الوطن، وتم تشكيل الأصوات من أحرف متعددة تصل لأربعة مما جعل الكلمات طويلة وبالتالي صعبة القراءة والكتابة .. إلا أن هذه ليست بالتأكيد مشكلة اللغة الأديغية الرئيسة. ما هي إذن بعض المشاكل الرئيسة للغة الآديغية (بنظري)؟
1- إنها لغة بلا وطن بالمعنى الحقيقي رغم وجود الوطن بمفهوم الأرض والشعب، وبالتالي لم يتح لها أن تتطور بحيث تستطيع معايشة الحياة العملية.
2- أن الأديغة عمليا قد تخلوا عن لغتهم الأم لصالح اللغات الأخرى المسيطرة في الوطن والمهاجر وقد حدث هذا التغير بشكل مريع في الخمسين سنة الأخيرة.
3- اللغة الأديغية تحتوي على 56 صوتا .. فمها كانت الأحرف التي تكتب بها لا بد أن تشتمل على عدد مقابل من الأحرف سواء كانت لاتينية، عربية أو سيريلية، أحرف جديدة أو معدله.
4- تعدد اللهجات في اللغة الواحدة (وتمسك البعض بلهجاتهم) لا يساعد أيضا على نهضة اللهجة المتفق عليها ويجعل إمكانية الآتفاق على لهجة موحدة من قبل الجميع غاية في الصعوبة.
5- الانتقال للمدن (لأسباب مختلفة غالبا ما تكون موضوعية) وظهور التلفزيون وبقية وسائط التواصل فيما بعد .. ساهم إلى حد كبير في انحسار تعليم اللغة بالطريقة الأصلية من الأم للطفل.
6- ظهور دعوات للتقليل من أهمية اللغة (كونها لا تطعم خبزا) من قبل بعض المجموعات الدينية أو الحزبية والتي تكون عادة إما ضيقة الأفق أو انتهازية.
7- عدم توفر مراكز تعليم اللغة بشكل جدي في معظم أماكن تواجد الشراكسة، ما يحرم حتى من تتوفر لديهم الرغبة الذاتية بتعلم اللغة من هذه الفرصة.
وهناك بالطبع الكثير من العوامل والأسباب الأخرى يتفاوت دورها وتأثيرها من منطقة لأخرى.
دور الأحرف المستخدمة لكتابة اللغة الشركسية
كتبت اللغة الشركسية بالأحرف العربية المعدلة .. وبالأحرف اللاتينية المعدلة والسيريلية المعدلة (عن طريق استخدام اكثر من حرف للصوت الواحد)، وحتى الآن كانت اكثر المطبوعات كماً وانتشاراً من نصيب الأحرف السيريلية لأسباب واضحة. وشملت المطبوعات – وهي كثيرة – أعمالا أدبية هامة غطت جوانب الثقافة المختلفة. ومن غير العملي ابدا القول أنه يمكن إعادة كتابة كل هذه الأعمال بالأحرف الجديدة المتبناة، ولا سيما أنها كبيرة العدد من جهة وسيكون من الصعب جدا إيجاد الكادر المتمكن من الأبجديتين من جهة أخرى .. ناهيك عن التكاليف الباهظة التي ستنجم عن ذلك وقلة من سيقرأها على كل حال.
توجد في تركيا اليوم مجموعة تستخدم الأحرف اللاتينية المعدلة للغة الشركسية وقد قامت بنشر كتاب تعليمي بهذه الأحرف وتعمل ناشطة على نشرها بين الشركس في تركيا. من الواضح ان استخدام الأحرف الللاتينية في تركيا يمكن أن يكون عمليا ولا سيما أن الأحرف اللاتينية تستخدم في كتابة اللغة التركية التي يتعلمها الجميع.
بنفس الطريقة كانت هناك دعوات ومحاولات خجولة في سورية لا ستبدال الأحرف السيريلية بالأحرف العربية المعدلة على اساس ان ذلك سيسهل تعلم اللغة الشركسية للذين يكتبون بالعربية من الشركس.
إن استبدال الأحرف السيريلية بأحرف أخرى .. يشكل في حد ذاته إغراءً (عاطفياً) قوياً فأقل ما يمكن أن يقال عن هذه الأحرف أنها فرضت في الوطن ولا يسمح بتغييرها. ولكن مشكلة اللغة الشركسية ليست الأحرف التي تكتب بها لغتهم .. إنها في الحقيقة ضياع هذه اللغة في أفواه ابنائها، من النادر جداً أن تجد في تركيا أطفالا يتكلمون الشركسية، أو يفهمونها .. وكثيرٌ منهم لم يسمعها في حياته. والأمر ليس بأفضل كثيراً في مناطق أخرى سواء في الوطن أو المهاجر. إن أطفال اليوم لن تتوفر لهم أبدا فرصة تعلم اللغة بطريقة السليقة الصحيحة، وإن كانوا سيتعلمونها بطريقة دراسية كلغة أجنبية .. فإن الأحرف التي ستستخدم في ذلك ستكون ليست ذات بال أمام الصعاب الكثيرة التي عليهم تجاوزها كالقدرة على لفظ الأصوات الشركسية والتمييز بينها (وبعضها متقارب بشكل مخيف بحيث تصعب حتى على من يستطيع الكلام والقراءة والكتابة)، ناهيك عن القواعد التي يجب أن توضع أو تعدل فهي إما شحيحة أو يصعب فهمها في الكتب التي صدرت بالوطن باللغة السيريلية.
خلال تجربتي المتواضعة في تعليم اللغة الشركسية في الجمعية الخيرية الشركسية في دمشق – وكان الطلاب في المرحلة الجامعية أو الثانوية – وبعضهم لا يستطيع لفظ الأصوات الشركسية، لم تكن الصعوبة الحقيقية في تعلم الأحرف السيريلية – رغم ضرورة الاقرار بأنها كانت جديدة عليهم ومصممة بشكل يجعلها صعبة – ولكن الصعوبة في الحالات القواعدية التي لا يوجد قواعد واضحة لها. على سبيل المثال هناك الحالة التي تسمى الإرغاتيف وهي التي تحدد اللاحقة التي ستضاف للأسم أو الفاعل (هل هي حرف الميم أو الراء) مثلا:
КIaлэр кум ис – КIам кур ефы ... КIалэм ишIагъ – КIалэр къэкIуагъ
كانت هذه في غاية الصعوبة على الطلاب .. ولاحظت فيما بعد أن بعض من تعلم اللغة الشركسية في كبره كان كثيرا ما يخطيء بهذه القاعدة. وهناك صعوبات اخرى كثيرة لا تتعلق بنوع الأحرف المستخدمة.
لهذه الأسباب وغيرها لا أعتقد أن محاولات تبني أحرف أخرى في هذه الظروف وهذا الوقت مجديا أبدا .. بل أعتقد أنه سيكون ضاراٌ وعلى أقل تقدير سيكون عامل فرقة أخرى يضاف لعوامل كثيرة موجودة أصلا ولو أن معظمها قد أوجد لأسباب مختلفة.
الاستثناء الوحيد برأيي المتواضع يمكن أن يكون بتبني أحرف جديدة غير السيريلية واللاتينية أو العربية .. إعتمادا على الدمغات والزخارف الشركسية – شريطة أن يتم شبه إجماع عليها في الوطن والمهاجر – وهو أمرقد يكون ممكناٌ رغم صعوبته.
رغم كل التشاؤم الواضح، هناك بوارق أمل. إن تجربة المدرسة الأديغية في سوريا – على سبيل المثال – ومدرسة الأمير حمزة في الأردن، من هذه البوارق. فمع أني ولدت بعد إغلاق المدرسة الأديغية بأكثر من عقدين .. فقد كان لها دور مهم يتجاوز السنوات القصيرة من عمرها. لقد كانت مصدر إلهام لكثير من الشبان لتعلم القراءة والكتابة وللحفاظ على اللغة في اسرهم وتعليمها لأولادهم في سوريا، ويحق لي أن أذكر اليوم أني وضمن مجموعة من الأصدقاء لم تكن تبلغ أو تتجاوز العشرين من العمر كثيرا، تمكننا من ذلك – رحم الله من استشهد منهم ومن توفي -. وهم اليوم في الستينات من العمر ومن الأقلية غير الأمية من الشركس في سوريا، ويجيد ابناؤهم الشركسية.
لم يقتصر دور المدرسة الأديغية في القنيطرة في ثلاثينيات القرن الماضي على تعليم اللغة الشركسية .. لقد خرجت طلابا متميزين في عاداتهم الشركسية وسلوكهم الشخصي وأخلاقهم النبيلة. رحم الله أمين سمكوغ ورفاقه وكل من ساهم في ذلك المشروع التربوي الرائد.