القوزاق في روسيا: بين الأسطورة والواقعيّة



 أوراسيا ديلي مونيتور المجلد
الكاتب: بول غوبل
ترجمة: عادل بشقوي

هذا الاسبوع وتحديداً في (7 سبتمبر/أيلول)، احتشد أكثر من 300 من القوزاق والكهنة الأرثوذكس الروس ومسؤولي موسكو والباحثين في مدينة ستافروبول الروسية في شمال القوقاز. اجتمعوا لمناقشة الفجوة الهائلة والمتزايدة بين الطريقة التي يقدّم من خلالها القوزاق في وسائل الإعلام الروسية والدولية -- وبالتالي النظرة إليهم من قبل السكان -- والحقائق على أرض الواقع وأن عدداً قليلاً في روسيا أو في أماكن أخرى يأخذوا الوقت لإيلاء الاهتمام لها. وأشار أحد المتحدثين إلى أن القوزاق يتم رؤيتهم من قبل كثيرين من الروس إما أنّهم مجرمون أو فضوليّون، بينما في الواقع، القوزاق اليوم هم من بين معظم -الملتزمين- بالقانون، وفي بعض الأحيان هم نماذج لأفضل الأمثلة في الحياة الروسية 

أسباب هذه الفجوة تكمن في ثلاثة مجالات هي: طبيعة القوزاق كمجتمع تاريخي، وعلاقتهم المعقدة مع الدّولة الروسية، وبشكل خاص الدولة السوفياتية، وظهور ما يسميه الكثيرين الآن بالقوزاق الجدد في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. هذه المجموعة الأخيرة تّدعي الإسم وتسعى للحصول على امتيازات القوزاق التي كانت متاحة قبل عام 1917، ولكن، في الواقع، في كثير من الأحيان ليس لديها سوى صلة هشّة للغاية مع ذلك الماضي.

يستمر نقاش واسع حول أصول القوزاق، على الرغم من أن الإغلبيّة تقبل بفكرة أن الاسم له جذور تركية ويعني "الرجال الأحرار"، وهو المصطلح الذي يساعد على تفسير جزء من ظهور هذه المجموعة ولكن بعيدا عن كل ذلك. ويرى بعض المنظرين القوزاق بأن القوزاق لهم جذور تمتد إلى عدة آلاف من السنين، على الرغم من أن معظم المؤرخين يقولون أنهم ظهروا فقط في القرن الرابع عشر أو القرن الخامس عشر، كمجتمعات تشكلت في البداية كقوى معارضة ومن ثمّ كعملاء لدول مختلفة في السهل الأوراسي. وجاءت هذه المجتمعات إلى حيز الوجود عندما فرّت مجموعات من الأفراد من القوة المتزايدة للدولة إلى المناطق الحدودية وبعد ذلك، في بعض الحالات تم تحويلها إلى قوات تحت سيطرة تلك الدول -- وخاصة روسيا -- لتوسيع رقعة انتشارها 

بحلول نهاية القرن التاسع عشر، كان هناك ثلاثة عشر "جيشاً" وهو مصطلح لا يشير فقط إلى الطبيعة العسكرية للمجتمع القوزاقي ولكن للمجتمع بأكمله والمنتشر عبر الإمبراطورية الرّوسيّة. لقد كانوا متنوعين للغاية. وأكثرهم شهرة، قوزاق الدون وكوبان وتيريك، وما يسمّى ب "وحدة الثالوث"، كانوا مسيحيين أرثوذكس ورأوا أنفسهم كمدافعين عن التقليد الإمبراطوري الروسي حيث بسطت سانت بطرسبورغ سيطرتها على منطقة القوقاز. لكن، حتى هذه الجماعات كانت أكثر تنوّعاً مما يعتقد الكثيرون، باستيعابهم الطوائف غير السلافيّة وغير الأرثوذكسيّة.

في أماكن أخرى، كانت "جيوش" القوزاق أكثر تنوعا، وهو انعكاس للطريقة التي ظهروا فيها الى حيز الوجود والسكان الّذين عاشوا معهم. بعضهم، مثل قوزاق سميرتشي كان من بين أعدادهم بعض المسلمين والأتراك. وآخرين، مثل "جيش" ما وراء البايكال الّذين كانوا بوذيين في معظمهم. ولا يزال آخرون، بما في ذلك آخر ما تشكل في الشرق الأقصى، تم تنصيبهم كعملاء صريحين للأرثوذكسية الروسية وللإمبراطوريّة الرّوسيّة.

و نظرا لهذا التنوع ليس من المستغرب، أنه كان لهذه المجموعات علاقات متفاوتة مع الدولة الروسية. بدأ العديد منهم وجوده كلاجئين من تلك الدولة وحتى معارضين لامتداد سلطاتها. وفي وقت لاحق أصبحوا طبقة الخدمة في داخلها، وجزء من الجيش الإمبراطوري الروسي، ومصدرا رئيسيا لدعم النظام القيصري. ولكن في القرن العشرين، كان لهذا التعقيد عواقب وخيمة على القوزاق.

بعد الثورة الروسية، كانت وحدات القوزاق في دون وكوبان من بين أول من أعلن الحرب ضد البلاشفة. وبسرعة تبعهم معظم الآخرين، بما في ذلك أورال وسيبيريا وما وراء البايكال وخاباروفسك وسميرتشي. وكان في وحدات القوزاق أفضل الجنود الذين كانوا لدى الجيوش البيضاء المناهضة للبلشفية، من حيث قتالهم إلى النهاية والهجرة معا في وحدات متكاملة. ومع ذلك، وفي الوقت نفسه، كان هناك قوزاق قاتلوا على مستوى فردي أوعلى مستوى القرى إلى جانب البلاشفة، كما وثّق شولوخوف في روايته الكلاسيكية "ويتدفق الدون بهدوء" 

لكن معارضة القوزاق للسوفيات أوضحت تجربتهم في القرن العشرين. على الرغم من أنه نادرا ما ذكر ذلك من قبل الآخرين، إلا أن القوزاق أول مجموعة عرقية-قومية تتعرض للقمع من قبل فلاديمير لينين والبلاشفة. لقد تمّت إبادتهم تقريبا، ودمّرت تنظيماتهم المجتمعية عن بكرة أبيها، وتلك القلة الّتي حاولت الاحتفاظ بتلك الهوية تعرض أفرادها للاضّطهاد طوال سنين العشريينيات والثلاثينيات من القرن العشرين. نجت القوزاقيّة إلى حد كبير في الذاكرة البعيدة، وفي الشتات.

لقد تغيّر ذلك لفترة وجيزة أثناء الحرب العالمية الثانية عندما كان جوزيف ستالين مستعداً ليستهوي أي تقاليد قومية من شأنها أن تدعم حربه ضد أدولف هتلر. تم إحياء وحدات ومهمّات القوزاق، ولكن كان مقدرا لأن يكون ذلك فقط هدنة قصيرة من القمع السوفياتي، ليس فقط بسبب طبيعة محبة القوزاق للحرية الذين مثّلوا عبرها تهديدا لنظام ستالين الشمولي، ولكن أيضا لأن العديد من القوزاق الّذين كانوا يعيشون في الخارج قاتلوا إلى الجانب الألماني على أمل إسقاط البلاشفة. في نهاية الحرب، تم القبض على الكثير منهم، وشنق قادتهم، وتم إرسال أتباعهم إلى معسكرات العمل

في أواخر الثمانينيات، كان القوزاق في وضع يوصف أكثر قليلا من حب الإستطلاع بالنسبة لمعظم الناس في الاتحاد السوفياتي، وهو ما قد سمعوا عنه من الكتب والأفلام ولكن ليست مجموعة كانت لديهم أي خبرة مباشرة معها. لكن مع تفكك الاتحاد السوفياتي، فإن بعض القوزاق الذين احتفظوا بهويتهم سعوا لاستعادة ماضيهم، والحصول على اعتذار رسمي من الدولة الروسية لما فعله السوفيات بحقّهم، وحتى لوضع أنفسهم في خدمة تلك الدولة كمساعدين لقوات الأمن.

كان عدد الأشخاص من هذه الفئة قليلاً، وذلك بفضل القمع السوفياتي، لكن سرعان ما انضم اليهم آخرين من الذين رأوا في القوزاقيّة لافتة وحتى طريقة للحياة التي يرغبون في محاكاتها، خصوصا إذا كان ممكناً انتزاع الموارد من الدولة وأن تتم معاملتهم على أنهم مؤيديوها المميزون – وعلى وجه الخصوص، كمساعدين للأمن. هؤلاء هم "القوزاق الجدد"، وهم يدّعون أن عددهم يزيد عن ثلاثة ملايين نسمة، على الرغم من أن معظم الخبراء يقولون أن تعدادهم أقل من ذلك بكثير.

ونظرا لهذا التنوع وهذا التاريخ، فإنه ليس من المستغرب أن يشبه وضع القوزاق القصة القديمة، الرجال المكفوفين والفيل: يمكن للمراقبين أن يجدوا دليلا على أي شيء يريدونه تقريبا، ولكن ما يجدوه يروي فقط جزءا من الحكاية. هذا المزيج يشوه بشكل فعال، وغالبا بطرق سلبية للغاية، تاريخ مجموعة متفاخرة إلا أنها مضطّهدة جداً تعيش خلال الأوقات الصّعبة.